الصّراع على ميّاه النّيل بين الحلّ السّلمي أو الصّدام الحتمي

عراق العروبة
بحوث ودراسات
29 أبريل 2021
الصّراع على ميّاه النّيل بين الحلّ السّلمي أو الصّدام الحتمي

الصّراع على ميّاه النّيل بين الحلّ السّلمي أو الصّدام الحتمي

عراق العروبة

مصطفى قطبي

الصّراع على ميّاه النّيل بين الحلّ السّلمي أو الصّدام الحتمي

يعود ملف سد النهضة الإثيوبي إلى واجهة الأحداث بالقارة الأفريقية وعلى صعيد المشهد السياسي العربي والدولي، فبعد كر وفر ومحاولات طويلة لإيقاف مشروع سد النهضة عبر مفاوضات ترضي جميع الأطراف، ضربت إثيوبيا بعرض الحائط كل تلك المحاولات معلنة رسمياً عزمها المضي في الملء الثاني لسد النهضة في تموزالمقبل، حتى لو لم يتم التوصل إلى اتفاق، فيما تتمسك القاهرة والخرطوم بالتوصل إلى اتفاق يحافظ على منشآتهما المائية ويضمن استمرار تدفق حصتيهما السنوية من مياه نهر النيل‎، البالغة 55.5 مليار متر مكعب، و18.5 مليار متر مكعب بالترتيب. إعلان إثيوبيا لم يأت متوافقا مع الهدف الذي أعلن مع بدء المفاوضات، والمتمثل ببلورة اتفاق قانوني نهائي ملزم لجميع الأطراف، بخصوص قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، مع الامتناع عن القيام بأي إجراءات أحادية بما في ذلك ملؤه قبل التوصل إلى اتفاق. والقول الفصل جاء على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية دينا مفتي الذي صرح: “إن الاتفاقات التاريخية لتقاسم مياه النيل التي تتمسك بها دول المصب (مصر والسودان) غير معقولة ولا يمكن قبولها”.وأضاف مفتي في إحاطة للصحفيين الثلاثاء 27/04/2021 أن “التهديدات التي تطلقها دول المصب بشأن سد النهضة غير مجدية”. 

لقد فشلت المفاوضات حول سد “النهضة” بين مصر والسودان وأثيوبيا في التوصل إلى حل، وقد شهدت الفترة الماضية تشدداً واضحاً للعيان من جانب أثيوبيا التي انحرفت عن الطريق الدبلوماسي، وسيطر على التصريحات الرسمية الصادرة عنها لهجة عجرفة تجاه فرقاء الأزمة، بطريقة تشير إلى دور خفي للدول المساهمة في عمليات بناء السد، هدفت من خلاله لإيقاف عجلة التفاوض، وفضلت دفع جميع الأطراف المعنية للوقوف على حافة الهاوية مقابل دوران عجلة البناء وملء الخزان. وللأسف، فمصر التي تعتبر أمنها المائي خط أحمر لا يمكن تجازوه، فقد دخلت في منطقة الفقر الحاد فيما يخص المياه، وفي هذا السياق قال رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، الثلاثاء 27/04/2021، “أن أكثر من 90 في المائة من موارد بلاده المائية تأتي عن طريق نهر النيل. وأضاف مدبولي، خلال مؤتمر صحفي: “وصلنا 100 مليون مواطن، والموارد المائية نفسها، وهذا جعل مصر من ضمن الدول التي تعاني من الفقر المائي”، مشيرا إلى أن الدولة تنفذ العديد من المشروعات المهمة للاستفادة من كل نقطة مياه. أما السودان فقد اتهمت وزيرة الخارجية السودانية مريم الصادق المهدي الحكومة الإثيوبية بتجاهل “المرجع الأساسي” للمفاوضات، الذي قصدت به إعلان المبادئ الموقع بين الأطراف الثلاثة في العام 2015، في حين قال سامح شكري وزير الخارجية المصري: إثيوبيا “تجهض أي مسعى للتوصل إلى اتفاق دائم بشأن سد النهضة”، ولربما كانت لدى مصر والسودان، الكثير من المبررات التي استدعت التهدئة، لترك الباب موارباً حتى ما بعد فوات الفرصة الحالية للتفاهم الدبلوماسي، فالحلول الأخرى غير الدبلوماسية قد تبدو كارثية على الأطراف كلها. وبهدوء، يمكننا أن نجزم وبشكل قاطع بأن المفاوضات المصرية ـ السودانية – الإثيوبية حول سد النهضة التي جرت منذ 10 سنوات، قد انتهت إلى مراكمة افتراق في المواقف من الصعب بعد اليوم إيجاد تلاقيات جديدة فيها، أقله وفق المعطيات الراهنة! 

يجب أن نعترف، أنّ سدّ النهضة حولته الحكومات الأثيوبية خلال السنوات الأخيرة، ولأسباب داخلية، إلى قضية عزة وتنمية ونهوض وطني، والى هدف قومي ينبغي أن تلتف حوله الأمة الأثيوبية بكل مكوناتها الإثنية والسياسية، ومن ثم تم تغليف المشروع بالكثير من المبالغات الشوفينية والشعارات، وتحول أحيانا إلى تحد في مواجهة مصر، وهو أمر وإن كان يخدم الحكومات الأثيوبية داخليا، إلا انه لا يخدم العلاقات والمصالح الأثيوبية والمصرية، والمؤكد أن الاعتبارات السياسية والإعلامية لعبت ولا تزال تلعب دورها السلبي في هذا المجال إلى حد كبير. الثابت لدينا اليوم، أنّ أزمة سد النهضة الإثيوبي بين السودان ومصر وإثيوبيا، تتفاقم مع فشل المفاوضات، والتي بدأت منذ نحو 10 سنوات، ويديرها الاتحاد الإفريقي منذ أشهر، هذا الأخير اتهمته الحكومة السودانية، بالانحياز لصالح إثيوبيا، وقال وزير الري والموارد المائية السوداني “ياسر عباس”، أن الاتحاد “لم يلعب دوره القيادي بل اكتفى بدور المراقب فقط”، لافتا إلى أن هذا الموقف يدفع إثيوبيا للإصرار على اعتباره الوسط الوحيد في الأزمة. وأضاف: “نرى أنه لم تكن هناك منهجية جادة للتفاوض للوصول إلى اتفاق… عندما بدأت المفاوضات برعاية الاتحاد الأفريقي في العام الماضي، كنا متوافقين حول 90 في المائة من المسائل، وبعد 8 شهور من التفاوض أصبح الخلاف في كل الاتفاقية من جديد”.

المؤكد اليوم، أنّ أزمة “السدّ” كانت ولا تزال تمثّل نقطة إثارة للتوتّرات الجيوسياسية بين مصر والسودان وإثيوبيا، إذ أن هذا المشروع الذي بدأت أديس أبابا ببنائه منذ عام 2011 يثير توترات حادة بينها وبين السودان ومصر اللتين تتقاسمان معها مياه النيل وتخشيان أن يحد السد من كمية المياه التي تصل إليهما. مصر والسودان تخشيان أن يؤدي السد إلى تقليص حصتي البلدين من المياه التي تعتبر شريان الحياة فيهما، وتأتي المخاوف المصرية مع قلق من تهديد حصتها المائية السنوية، والمخاطر كبيرة بالنسبة لمصر، التي تمتد بها الأراضي الصحراوية، لأنها تحصل على 90 بالمائة على الأقل من مياهها العذبة من نهر النيل. فمصر، والتي توصف بأنها “هدية النيل”، تعتمد بشكل كامل تقريباً على النيل لتلبية احتياجاتها المائية المختلفة، وهي المستفيد الرئيسي من اتفاقيات 1929 و1959 بشأن استخدام مياه النهر المشتركة. إذ تمنح اتفاقية عام 1959 مصر حصة قدرها 55.5 مليار متر مكعب سنوياً من أصل 74 ملياراً متاحاً، وتسعى مباحثاتها الفنية إلى الإبقاء على حصتها المائية السنوية، (55.5 مليار م³)، في سنوات ملء وتشغيل السد، وهو ما تراه إثيوبيا حسب زعمها مساسا بسيادتها وحقوقها في التنمية وتوليد الكهرباء، دون الوصول لحل مرضٍ للطرفين. وبالرغم من أن مصر قدمت الكثير من جوانب حسن النوايا والتعبير العلني عن إدراكها لأهمية سد النهضة للتنمية الأثيوبية، بل وتقديمها مساعدات لأثيوبيا في أكثر من مجال، وبالرغم من مرونتها في التعامل مع المفاوضات الخاصة بسد النهضة، إلا أنه يبدو أن السلطات الأثيوبية تميل إلى اتباع سلسلة من الحیل الدبلوماسیة المخادعة، منذ توقيع إعلان المبادئ عام 2015، الذي یشیر إلى أنه یجب على جمیع الأطراف التوصل إلى اتفاق أولاً قبل ملء الخزان.

أما الحكومة السودانية فقد أكدت، أن إعلان إثيوبيا عزمها ملء بحيرة السد العملاق الثانية، سيتضرر منه 20 مليون مواطن يقطنون على ضفاف النيل الأزرق، معلنة رفضها الخطوة، معتبرة أن ذلك يشكل تهديداً مباشراً لسد الروصيرص وبالتالي على منظومات الري وتوليد الكهرباء ومحطات مياه الشرب على طول النيل الأزرق والنيل الرئيسي، الأمر الذي يشكل تهديدا للأمن القومي السوداني.وفي هذا السياق، وصف المستشار الإعلامي لرئيس مجلس السيادة السوداني الطاهر هاجة، سلوك أديس أبابا بـ”النية المبيتة منذ بدء إنشاء السد قبل 10 سنوات باستبعاد استراتيجية التعاون بشأن المياه وتبني خط الصراع عبر مواقف رافضة لكل خيارات الحلول المطروحة”. واستطرد “ما ينبغي أن نؤسس عليه العلاقات، يتمثل في مشروعات التنمية المستدامة وتحقيق الرفاه لشعوب الدول الثلاث ورسم المستقبل الاستراتيجي الرامي للسلام والاستقرار”.

من جهته قال وزير الري والطاقة الإثيوبي سيلشي بيكيلي، الأحد الماضي، إن سد النهضة حق لبلاده في التطور وأن هناك “مؤامرة” لإفشال بناء السد، وذلك في ظل تعثر المفاوضات بين كل من مصر والسودان وإثيوبيا حول أزمة السد والتي تراوح مكانها منذ سنوات من دون أن تحقق أي اختراق يذكر. وقال بيكيلي، “سد النهضة حق لبلدنا في التطور بحرية، ويجب على كل الإثيوبيين أن يتحدوا ويفهموا ويقفوا معا لمواجهة التحديات الرئيسية التي تواجه بلدنا اليوم من أجل بناء السد والخروج من الفقر”.

ولعله من الأهمية بمكان الإشارة، إلى أنّ ملف سد النهضة الإثيوبي ظلّ إحدى أهم القضايا العالقة على الخريطة الأفريقية منذ عقود، ودخل هذا الملف منعطفات كثيرة لسنا في وارد التعرض لتفاصيلها التاريخية. فالذي يهمنا أكثر هو الحديث عن الحاضر. فقد بدأ العمل في بناء سد النهضة أثناء أحداث ثورة يناير 2011 في توقيت استثنائي دون الرجوع إلى مصر حسبما تقتضيه اتفاقيات (1929 ـ 1958) وجاء تفهم مصر لأهمية السد بالنسبة لإثيوبيا، ما يعني تعامل مصر مع الملف بطريقة إيجابية جدا أملا في إتمام الاتفاق حول قواعد ملء السد، بشرط عدم الإضرار بأمنها المائي الحيوي، وقدمت تنازلات لقبول تخفيض حصتها من المياه في سنوات ملء السد وفقا لاتفاق دولي ينظم العملية وهيدروليكية التشغيل، وقد وصلت الاجتماعات إلى مستويات متقدمة، لتفاجأ أخيرا بعدم توقيع إثيوبيا على الاتفاق النهائي، ما أوجد حالة من عدم الثقة واستشعار نيات غير مطمئنة من قبل الجانب الإثيوبي حيال هذا الموضوع، وهو الأمر الذي رفع درجة الخطر السياسي ودفع الملف مجددا إلى واجهة الأحداث الدولية.

وكانت أثيوبيا قد لجأت إلى طرق خبيثة، خططت لها مسبقاً، لإلغاء حقوق الدول المستفيدة من مجرى نهر النيل، والمنظمة بموجب اتفاقيات سابقة، وتبنت الاتفاقية الإطارية لدول المنابع، وقادت الصراع لإنجازها عام 1995، ورفضت الربط بين هذه الاتفاقية والاتفاقيات السابقة، مؤكدة أحقية وأولوية الأمن المائي لدول المنبع ”النيل والأنهار الأخرى”، من دون دول المصب ومنها مصر. وانتهت بتوقيع بوروندي على الاتفاقية الإطارية في أول شهر آذار من العام 2011، الأمر الذي وفر المجال والظروف لاستمرار أثيوبيا في تحقيق أهدافها، من تفريغ اتفاقيات دول المصب وبخاصة مصر من مضمونها، وعدم الالتزام بأي اتفاقية سابقة تضمن حصة وحقوق دول المصب، ما وفر الحرية اللازمة لإنشاء سد ”النهضة”. وبذلك تحقق الهدف الرئيسي لأثيوبيا من تجريد مصر بالدرجة الأولى من حقوقها التاريخية والقانونية في ملف نهر النيل، ”اتفاقيات دول حوض النيل منذ عام 1894 ـ 1902 ـ 1929 وآخرها عام 1959. إضافة إلى ذلك فقد استغلت أثيوبيا ضعف مستوى التفاوض مع مصر وغياب الردع القسري بعد ”ثورة 25 كانون الثاني 2011”، غير عابئة بالاعتراضات المصرية، انطلاقاً من انعدام التوافق والتشرذم السياسي في ذلك الوقت، الذي أدى إلى عدم الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي… ومن ثم استغلت جميع الظروف وكسبت الوقت لإنجاز بناء السد من دون أي تعديل، لفرض الأمر الواقع، لأن بناء السد ينطلق ويستند إلى صراع سياسي واقتصادي غير معلن مع مصر، وبتخطيط أمريكي ـ إسرائيلي، ولم تعبأ بالاعتراضات المصرية…

إنّ عزم أثيوبيا الملء الثاني لسد النهضة في تموز المقبل، لا ريب في إضراره بالأمن المائي لمصر والسودان، ووفق المعطيات السابقة، تبدو الدبلوماسيتان المصرية والسودانية معنيتين بدرجة أولى باللجوء للقانون الدولي الذي ترفضه أثيوبيا، بسبب أكلافه السياسية الباهظة، والهدف الحقيقي لذلك الرفض يهدف إلى تجنب خيار دخول أطراف جديدة في تلك المفاوضات، وصولاً إلى إمكانية اللجوء إلى “التحكيم الدولي” الذي ترى إثيوبيا أنه لن يكون في صالحها، ولذا فهي تسعى إلى القيام بخطوات لفرض أمر واقع، من نوع إعلان وزير المياه الإثيوبي ساشي بيكيلي، أن “الملء الثاني للسد سيتم في موعده المحدد وفق ما خطط له”.

خلاصة الكلام: أزمة سد “النهضة” فتحت الباب مجدداً على ما يُعرف بـ “الأزمات الصامتة” في العالم العربي، أي الأزمات المتعلقة بالأمن المائي، وهي أزمات وجودية لا تقل تهديداً عن الأزمات العسكرية والحروب، بل هي أخطر، لأن العدو يستهدف الدول العربية بمياهها، وليس سراً أن “إسرائيل” والولايات المتحدة تقفان بصورة أساسية وراء استهداف الأمن المائي المصري عبر استهداف حصتها في مياه نهر النيل… والأهداف لا تخفى على أحد. وإننا في هذا السياق، نذهب أبعد من ذلك، ونتساءل كما يتساءل الكثيرون: ما الأزمة المائية المقبلة، بمعنى من هي الدولة العربية التالية التي ستكون مستهدفة بمياهها، العراق أم سورية المستهدفتان من تركيا بمياه نهري دجلة والفرات؟… أين المؤسسات العربية المعنية (خصوصاً ما يُسمى المجلس العربي للمياه)؟ إن ملف الأمن المائي العربي من أكثر الملفات حضوراً على مستوى الدراسات، ليس فقط من الدول العربية وخبرائها واقتصادييها، بل من العدو وبصورة أكبر، وغالباً ما يتم نشر نتائج هذه الدراسات على أوسع نطاق بكل ما تتضمنه من حقائق ومخاطر وتحديات وأطماع، مع ذلك لا يتم التعامل معها عربياً بصورة جدية حتى وصلت إلى ما وصلت إليها… وسد “النهضة” هو البداية فقط.

 من مقالات الكاتب - عراق العروبة

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.