التسوّل وما أدراك ما هو!!

عراق العروبة
مقالات وآراء
2 نوفمبر 2021
التسوّل وما أدراك ما هو!!

التسوّل وما أدراك ما هو!!

عراق العروبة

د . صادق السامرائي

التسوّل وما أدراك ما هو!!

من البحوث التي لن أنساها لأنها كادت أن تتسبب لي بمشاكل كبيرة، ذلك البحث الذي قمت به بإندفاع شاب متحفز متيقظ للإمساك بأية فرصة والإستثمار فيها، والخلاصة ذات زمن كنت طبيبا مقيما في مستشفى الرشاد (الشماعية سابقا)، وفي أحد المساءات توافدت إلى المستشفى سيارات الشرطة محملة بالمتسولين مع أمر بإيداعهم فيها، وتواصل هذا العمل لمدة أسبوع، في كل مساء تأتي أعداد من سيارات الشرطة المحملة بالعشرات من المتسولين، وفقا لما قيل لي بأن وزير الداخلية آنذاك قد أصدر أمرا بتنظيف شوارع بغداد من المتسولين، والقبض عليهم وإيداعهم مستشفى الأمراض العقلية، ظنا بأنهم مرضى عقليين، وأن التسول في البلاد لا وجود له، وأي متسول يحسب على أنه بحاجة إلى علاج في مستشفى الأمراض العقلية.

ووجدتها فرصة للقيام بدراسة التسول، خصوصا وأن العينة عشوائية وقد حضرت إلى المستشفى، وأنا الطبيب الذي عليه أن يعمل ليل نهار لإنجاز إجراءات الدخول وتقييم الحالات، فأسرعت إلى تأليف صيغة لبحث يتضمن عدد من الأسئلة ورحت أجمع المعلومات، وكانت العينة أكثر من المئتين، وقد بذلت جهدا كبيرا لجمع المعلومات في وقت قصير، لأن العدد كبير وعلي أن أعاين ما يقرب من الثلاثين منهم كل يوم، وربما أكثر وفقا لما تجود به سيارات الشرطة من صيدها في شوارع بغداد، وخصوصا قرب المراقد والجوامع وفي الشوارع الرئيسية.

وبعد ان إنتهيت من جمع المعلومات وإجراءات الدخول إلى المستشفى، أخذت بتصنيفها وإحصائها ووضعها في ديباجة بحث، حسبته سيساهم في تقديم معرفة عميقة عن التسول ودوافعه وأسبابه ومعالجاته، وإقتراحات للتشافي من ظاهرة التسول.

ووضعت ” التسول في العراق” عنوانا للبحث، وما أن عرضت البحث على مَن يهمهم الأمر ، وحسبته سينال الرضى والإعجاب، لأنه تناول موضوعا غير مطروق وبأسلوب علمي وموضوعي، حتى وجدتني في دوامة غضب ما فهمته ولا إستوعبته، فكيف تتجرأ وتقول : “التسول في العراق “، فالبلاد لا يوجد فيها تسول، وهذا فعل ربما فيه غايات مغرضة!!

ووسط ذهولي وصدمتي، وجدتني صامتا متحيرا، فأنا لم أقترف ذنبا لكنني أصبحت مذنبا وربما مجرما، فالبلاد بخير ورفاهية والناس لا تحتاج للتسول، لِما أنعمته عليها الحكومة من الخيرات والهبات والعطايا، فهناك وزارة للشؤون الإجتماعية، والكثير من المؤسسات التي تعتني بالمواطنين.

فكيف تكفر بنعمة الحكومة أو تكفّرها؟!

قلت إنه بحث لا غير، وقد تم جمع المتسولين من قبل وزارة الداخلية، وكانت مصادفة أن أكون الطبيب الذي عليه أن يقيّمهم جميعا ويدرس حالاتهم، فرأيت من الفائدة العمل على فهم واقع المتسولين والنظر في معالجات سلوكهم.

وما نفع الجواب، فالتسول جريمة أو مرض عقلي بحاجة للعلاج، أو موقف سياسي ضد الحكومة، ولولا ذوي الغيرة والشهامة لأخذني ذلك البحث إلى حيث الوجيع الشديد.

ونجوت من شروره وأهملته، وذدت بسلامتي من الظنون والشكوك والعدوان، وأدركت أن التسول موضوع سياسي، وتعريفه وفقا لصوت الكراسي وما تراه، ففي بلدٍ متخم بالثراء المتسول مريض عقلي  بحاجة لعلاج، أو مجرم أو يعبّر عن موقف سياسي ضد الحكومة،  ومن العدوان النطق بكلمة تسول.

وما أذكره من ذلك البحث أن نسبة منهم كانوا مصابين بالصرع، وعدد قليل جدا بالأمراض العقلية، لكن المدهش أن نسبة كبيرة هم من الذين نذروا أن يتسوّلوا عندما تتحقق أمنيتهم، وخصوصا الذين تم جمعهم  قرب المراقد، وهم ليسوا في عوز وإنما يبدو أنه سلوك متوارث،  وفيه نوع من الإعتقادات المتعارف عليها، وأكثرهم كانو من المناطق الشمالية والجنوبية، ومن الذين تم إلقاء القبض عليهم عند مرقد موسى الكاظم.

أعادني إلى هذا البحث التصريح بنفي التسول والفقر، وإعتبار ذلك دعايات مغرضة وعدوان على الحكومة، ويتعرض مَن يتجرأ بالنظر في التسول إلى أقسى الممارسات، وتلصق به المسميات التي تحلل محق وجوده وقطع لسانه!!

تذكرت ذلك ودولاب المآسي يدور، وناعور الإنتهاب والإستلاب (يغرف ويبدي) في الجيوب، فارتعي يا شعوب، وتنعمي بالقدر المكتوب، فذلك هو الفخر والعز والرُجوب!!

فما أشبه اليوم بالبارحة!!

التسوّل وما أدراك ما هو!!

د. صادق السامرائي

 من مقالات الكاتب - عراق العروبة

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.