فصل في النقد الادبي ، يعالج قصيدة جديدة تتناول مصابنا الجلل

عراق العروبة
ثقافة وأدب
7 مارس 2021
فصل في النقد الادبي ، يعالج قصيدة جديدة تتناول مصابنا الجلل

فصل في النقد الادبي ، يعالج قصيدة جديدة تتناول مصابنا الجلل

عراق العروبة

أدهم الشبيب

فصل في النقد الادبي ، يعالج قصيدة جديدة تتناول مصابنا الجلل

وحدة الموضوع و تكثيف المعاني
في قصيدة معارضة
في القصيدة التي بين ايدينا لاينبئك المطلع (الذي اشتمل على بيتين فقط) -و هذا اول غيث التكثيف الناجح للمعاني – ان الشاعر سيحاور او يحاكي قصيدة بعينها ، و لكن عندما تبلغ قراءتك الاشارة للقصيدة المحاكاة تعرف لماذا بدا شاعرنا قصيدته هكذا :
عجيب صمت من يدري ،،،، ثقيل زعم لا ادري
و المطلع في انتمائه لهذا الاسلوب (رصّ المعاني) الذي اصطبغت به تلك القصيدة ، يمكن توجيهه الى أحد مقصدين او كليهما ، فالعجب الناشيء عن صمت العارفين بالخلل الكبير ، يقابله حيرة متأتية من التعذر ب (لا ادري) لمن سيرد الحجة عن الساكتين الاخرين ، و منهم الشاعر نفسه ، فان قال ادري فقد انتقد نفسه مع (العجيب) و ان قال لا ادري ، ثقل عليه ان يقول مالا يصدق تهربا .
لذلك فانه لاذ اخيرا بوصف هذا الوضع المرير وتلك الحال مع الامرين بان قال :
يلخص وضعنا قولٌ ،،،، مرار كل مايجري
حقا، الملخص (مرار كل مايجري) فعبّر باللغة الشعرية الفصيحة ، و نهل من وجع العامية الصريحة .
هذا كان التمهيد و هو مباشر جدا ، حمل معنى قويا و شكوى صارخة و عنونَ موضوعَ القصيدة بخط عريض بارز و صنّفها (للشكوى السياسية) -من الاغراض الشعرية الحديثة-، و عرّفنا من اول وهلة حول ماذا ستكون الابيات التالية .
ثم ان التنبيه بالخطاب المباشر جاء بعد التمهيد و لم يات في اول القصيدة ، و هذا اعطاها وزنا مضاعفا و تميزا عن قصائد الخطاب ، فقولك انتبهوا الي ايها الناس من اول الكلام ، اقل وقعا من طرح امر كبير يثير فضول الناس ثم تقول : اعيروني اسماعكم الان لابين لكم من هذا خبرا . و قد جاء في احسن الكلام :
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ () نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ () إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)
التمهيد بآيتين و اثارة استعدادنا و مسامعنا قبل الشروع في اخبار الحدث و الموضوع المقصود حول امر يوسف عليه السلام و اخوته . وقال احسن القائلين عن حال الهدهد تمهيدا : (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) ثم الخبر (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) ،اثارة الانتباه اولا للامر العظيم ثم الدخول اليه ، لون من الوان القصص القراني المعجز ، اراد شاعرنا اقتفاءه تأسيا فقال :
اعيروني مسامعكم ،،،، بملء مساحة الشعر
و انا ارى عجز هذا البيت متميزا جدا و لعله مبتكر ، و لاشك انه حقق الغاية في جلب الاصغاء حيث انه توصيف لنوع الاستماع و مدته ، اعداد المتلقي لئلا يمل او ينقطع قبل نهاية الامر ، هذا معنى ، و المعنى المستتر في الاستعارة الجميلة هو (الاستماع بملء المساحة و كل الاذان) كما يجب ان يستمع احدنا الى الشعر العذب . وهذا سبب التداخل عند البلاغيين بين الاستعارة و التشبيه ، فالاستعارة تشبيه بليغ بعد كل شيء ، عليه مسحة من مقارنة، (فاستمعوا لي كما تستمعون الى الشعر باستحقاق مساحته و ملء آذانكم) .
و المعروف ان مستمعي الشعر ليسوا كغيرهم من المستمعين ، فمستمع الحديث الطويل يتثاءب و ينعس ، و مستمع الشعر العذب يتوثب و ينعش .
و هنا يَحسُن الدخول المباشر للغرض . و قد نجح الشاعر كثيرا بظني في ان جعل التنبيه بيتا و احدا ، و حالما اثار فضول الاستماع اجهز على غرضه دون اطالة و قبل ان يفتر حماس المستمع ، فكانما سأله المستمعون ماخطبك ؟ فاجاب :
قرات قصيدة كبرى ،،،، فثار الشعر في صدري
هذا هو سبب جمع الناس و التمهيد لهم بطرح مصيبة الصمت مع العلم و غرابة الدعوى بالجهل .
فالشاعر اثارته قصيدة قراها ، قصيدة استفزت في وجدانه وجعا على وضعٍ من حوله هو امرّ و اقسى مما تناولته تلك القصيدة و وصفته في السابق بشكوى مرة .
الان يلتفت الجميع و يجلسون كتلاميذ امام معلم متمرس ليصغوا ، اما النقاد و المتذوقون فسيصغون هم الاخرون لتَنبُههم فكرا لشيء آخر هو ،،
“ان كان الشاعر الذي يخاطبنا بهذه الاجادة و قصيدته يبدو من مطلعها الجودة ، فما شكل القصيدة التي اثارته اذن و ماموضوعها” ؟ و لست هنا للمفاضلة و لا المقارنة بين الشاعرين مكانة و انما بين قصيدتين ، و شاعرنا نفسه لم يدّع لنفسه شيئا و انما قصيدته هي التي تفعل ، بل انه و لكي يهيئنا بقدر يليق بحجم القصيدة المحاكاة و صاحبها فقد امتدحه و وصف غرض قصيدته في بيت ،، نستمع :
كتبت محاكيا طودا ،،،لبعض هجاءه المرِّ
أنا علي ان اخبركم بشاعر قصيدتنا الحاضرة ، هو حارث الازدي من شعراء العراق المُجيدين ، لكن ،،من ذلك الشاعر الطود؟ ، نتساءل فيعرض عنا و ينشغل بمصيبته و مخاطَبه و مجيره الشاعر السابق ، و لكننا حصلنا على الاجابة في ذات الوقت اذ يقول :
بلينا ياابن بردونٍ ،،،، ا عبد اللهِ هل تدري
أي قد بلينا بنفس بلواك ايها الشاعر ، وهنا كثّف المعنى الى الاقصى ، فقد اعلمنا باسم الشاعر و قدّم بعرض الشكوى ، و خاطبه بمجاز استنكاري ، وأخّر نداء الاسم بالهمزة القصيرة بعد ان قدّم نداء اللقب بال (يا)الطويلة مرفقا الشكاية مع النسب ، وهذا اوقر ، حيث الشكوى لكل (بني بردون القرية) ومن ثم بلاد العرب الاخرى بكاملها كناية عن الأعمام كما ينتخي ببني عمه و هذا اوقع على النفس ، في حين صاحبَ َالاسم المجرد عتبٌ او حزن شفيف اقرب للواقعية بين الاقرباء و الاحباب و الانسباء :
أيا جارتا انا غريبان هاهنا ،،،، و كل غريب للغريب نسيبُ
كما قال جدهما المنفي من بلده قبلا (امرؤ القيس) .
فالغرباء انسباء كما العشاق انسباء ، و لو لم يعرف احدهم الاخر، و كذا المصابون انسباء :
فَإِن يَكُ الجِنسُ يا اِبنَ الطَلحِ فَرَّقَنا،،،، إِنَّ المَصائِبَ يَجمَعنَ المُصابينا
كما قال سلفهما شوقي قبل ذلك مناجيا النائح من اسلافه على الضائع من امجاده و ارضه ، فنجح آنذاك ابياتا و قصّر و تاخر اتساقا و موضوعا ، فقد ناجى المعتمد بن عباد الشاعر الاندلسي والملك الاشبيلي الاخير –كما يبدو او تشعر- بمعارضة نونية بن زيدون ! و الامران مختلفان تماما ، فافقدَ فن المعارضة اهم اركانه ، و هو الآصرة التي لابد تربط أي قصيدتين متعارضتين ، فبينما كانت نونية ابن زيدون المذهلة ، في استرحامِ حبيبتِه و لومها على انقلاب النساء المعهود ، جاءت قصيدة شوقي في الحنين إلى مصر، عندما نفي الى إسبانيا ، ويبدو ان اسبانيا (الاندلس) كانت هي الشيء المشترك الوحيد بين قصيدة ابن زيدون السامقة الافق الخطيرة الشاعرية المتماسكة البناء و بين قصيدة شوقي المتفككة الجوانب في اغلبها كبناء نصي ، كما افتقارها الى الوحدة العضوية و الموضوعية ، وهو احد محوري فصلنا هذا ، بل و حتى الوحدة المعنوية ، فلم ينجح في الانتقالات من فكرة إلى أخرى ، و التي كان ينتقل فيها من غرض الى غرض و من موضوع الى اخر ليقضي على وحدة موضوع القصيدة و يشتت المعاني ، و صنع فجوات بل تصدعات في جسد القصيدة، و يبدو ان الاطالة و عدم القدرة على ادامة الجرس هي التي اوقعت شوقي في هذا ،-فليس كل شاعر مجيد يمكنه الاطالة – ففقدت قصيدته كثيرا من الجمال و النجاحات التي حققها في ابيات المطلع و في محطات اخرى من معارضته الطويلة . و امثلة التعثر كثيرة كمثل امثلة النجاح فيها ،و لا مقام لسردها حيث اننا نعالج قصيدة الشاعر الذي بين ايدينا .
و الذي نعود حيث توقفنا معه وهو يخاطب شاعر القصيدة الاولى متشكيا على نفس حزنه و جرسه و موضوعه ، محافظا على الاصرة الاهم بين أي متعارضتين ، وهي تشابه الموضوع و تناسق المعالجة كما اسلفنا . فها هو يسترسل معه مطمئنا في التفصيل كمن وجد من يصغي اليه حقا و يشعر ، اتعلم ايها الشاعر المتشكي قبلنا ممن نشتكي اليوم ؟ مِن
غزاة حكّموا الاوباش ،،،، حكم العبد للحرِّ
مؤلم ان يحكم عبيد الناس احرارهم ، فلك ان تتصور كيف سيوغلون بطبع الغدر والخسة التي تصاحب نقمة العبيد ، معنى مكثف آخر ، الفاظ قليلة بمعنى عميق :
فلم نامن غوائلهم ،،،، و لم نسلم من القهر
و ها هو يوضح انتماءه لابن عمه اليماني ليستحثه و يستثيره ، لعلمه بحقيقة الوشيجة بين المِصرين ، عارضا مصيبته مباشرة :
عراقي بات محكوما ،،،، بحقد الحمر و الصفر ِ
اجتمعت على العراق مصيبتان كما لم تجتمع على غيره ، محتلٌ و من يحكّمهم بدلا عنه ممن ينتسبون للبلد و يعملون لسيدهم الذي يثيبهم على مايجنون :
بمحتل يمالئهم،،،، يكافئهم على الغدر
و يصنع من ظلامتهم ،،،، ضلالات بلا حصر
شرحَ الهدم المنظم للقيم و الدين و بروز المتهرطقين وظهورهم على المتقين ، و الذي صار بلا حصر و لا حد . و هنا يجدد الشاعر التزامه بوحدة الموضوع التي دعمتها الوحدة العضوية و التي يعرفها النقاد :”انها البنية الحية والبناء المتكامل للقصيدة، وان تكون عملاً فكرياً وشعورياً متناسقا ومتنامياً، وليست خواطر مبعثرة أو أفكاراً متفرّقة” . فيستمر و يبين ان مما يفعله هذا المحتل انه يصبغ عليهم رداء الناس بينما هم ليسوا كذلك :
يؤنسنهم فيخدعنا ،،،، يبيع العسر باليسرِ
و قد وردت هذه اللفظة الحديثة (يؤنسن) بتصوير مختلف في القصيدة الاولى .
ثم من الفوضى التي يضج منها الناس و تخريب الديار ، يصنع لهم ايديولوجية و يسوّق للمخدوعين و المستضعفين ان هذه طريقة عمل و انها فوضى خلاقة . فيغري الشعب بخسران كبير و الأخير لا يشعر ظانا انها ايديولوجية و نظرية سياسية ، و هنايضطر الشاعر لادخال الفاظ حديثة –ليست شاعرية- لتكثيف معناه ، و هذا مما يباح في الشعر و ان اثّر على عذوبته ، و ذلك خدمة للتوصل للغرض ، فيشرح :
بفوضاهم يؤدلجهم ،،،، و يغري العبد بالخسر
و من اجل هذا فهو يختار رجالا ذوي هيئات براقة مغرية ، بعمائم او القاب او شهادات او ما الى ذلك ممن هو :
بوجه خادع القسمات ،،،،في صيرورة الوغر
و في كل حين يعيدهم الينا بصور جديدة على انهم جماعة جديدة بمباديء اصلاحية مفيدة ، و الحقيقة انهم ليسوا الا :
نفايات مدورة ،،،، محملة بما يزري
نفايات كما الطاعو،،،،ن تهذي وهي تستشري
ثم يرد اواخر القصيدة الى اولها باسلوب بياني جميل ، كما يُرد عجز البيت الى صدره في الاسلوب المعروف فنيا نثرا و شعرا ب (التصدير) :
ثقيل صمتنا ياقوم ،،،، مر صمتنا القسري
في اشارة الى بيت المطلع (ثقيل قول لا ادري) ، و يبرز كما ترى كل حين من بين جنبات هذه القصيدة المتماسكة وحدة الموضوع ، بل و وحدة البيت .
و يشرح الان ما بدأ به مستغربا ، و هو ان سبب صمت الذين “يدرون” انما اتى من تفريق عدونا لنا :
تفرقنا جماعات ،،،، و احزاب الهوى العهري
هجاء مُر ، استخدم فنا من فنون البديع بطباق طرف منه ظاهر لطرف آخر مخفي يُعرف من المشهور المستقر في الذاكرة ، و ذلك بين لفظتين لصفتي الهوى (العذري –المعروفة-) و (العهري –التي اطلقها الشاعر- حانقا) شاتما المصدر الذي جاء منه هؤلاء الاوباش ، تحت ادعاء الشوق للوطن و حبه ، و ما هواهم الا نزق و رغبة فاحشة دنيئة رذيلة ليس فيها من العذرية في الهوى شيء .
فَـصِـرنـا مَــضـربَ الأمـثـالِ،،،،فـــي تـــوهٍ وفــي شـطـرِ
فــقــالــوا إنـــنـــا جِــئــنـا،،،،لِــنـشـرِ الــحُــبِّ والـخـيـرِ
وكـانـوا عَـكـسَ مَــا قـالـوا،،،،بِــنـشـرِ الـحـقـدِ والــشـرِّ
و يفصّل الشاعر الان بعد ان عرض ادعاءاتهم ، يفصل لافعالهم التي ناقضت اقوالهم ، و تكثيف المعاني و ترادف الصور مازال سلاحه ، حيث لو لم يحسن استخدامه لمللنا – نحن الذين اعرناه اسماعنا كما طلب- قبل ان ينهي ، فمصائب هذا العصر و بلده و ماحل به لا يحويها كتاب فضلا عن قصيدة !
وقـــــالــــوا إنَّ أيـــــامًــــا،،،، سَـتـؤتـي الـخـيـرَ بـالـوفـرِ
تــمـادى ظـلـمـهم حـتـى،،،، بــلـغـنـا غــيــهـبَ الــبـئـرِ
ظلوا يحيكون لنا ظلما حتى القونا اخيرا في غيابة الجب ، كناية عن التآمر و الكيد ثم الضياع التام و الظلام و التيه .
أزاحـــــوا كـــــلَّ مَــعـلـومٍ ،،،، فــســادت دولــــةُ الـنـكـرِ
عِــراقــيـونَ نَــســعـى أن،،،، نُــسـاعـدَ كــــلَّ مـضـطـرِّ
ولـــكـــنَّـــا نَــســيــنــا أن ،،،، نُــرتِّــلَ سُــــورةَ الــعَـصـرِ
و هنا يحل على معانيه المتلاحقة المتراصة معنى اشرف وهو الاقتباس القراني ، فاهل بلده يساعدون المضطر و يغيثون الملهوف و لكنهم ما أغاثوا انفسهم ، فلعلهم نسوا تلاوة السورة التي تذكرهم بالخسران فتجنبهم اياه :
لَـــعــلَّ تِـــــلاوةً مُــثــلـى،،،، سـتـنـقذُنا مِـــن الـخُـسـرِ
رغم اني اعد هذا البيت هو الوحيد الذي يمثل حشوا في القصيدة حيث لم اصل الى تفسير بلاغي او بياني لوجوده في جسم القصيدة المترابط المعاني ، و ان كانت اقتباسته القرآنية جميلة و متسقة مع القافية . التي ادت هذه الهنة الى تكرارها في كلمة (الخسر) التي وردت في بيت سابق .
و لكن ها هو يلتزم بعد تباعد الابيات بوحدة موضوعه رغم انتقاله لخطاب جديد و مقطع جديد بغرض شعري جديد ، بعد (ا عبد الله هل تدري) الى :
فَــهـل تــدريـنَ يـــا بـغـدادُ ،،،، أن لــســانَـهـم عِـــبـــري
وَهـــل تـدريـنَ يــا صـنـعاءُ،،،، أنَّ بـــلاءَهـــم يَـــســـري
هل تنبهت كيف جمع شاعرنا الاشارتين للقصيدتين و المصابين عبر جمع المدينتين في بيتين مترادفين ؟ ، فالوجع واحد بين الشقيقين ، بل انه ممتد بعد ذلك –و لاشك- الى كل بلاد العرب الذين سيلتفت الان لمخاطبتهم جميعا ، انظر :
وهــل تــدرون أنَّ دمـشقَ ،،،، تــرثـي زهــرَهـا الـعـطري
فـتـلـكَ -حـقـيـقةً – بـلـوى ،،،، تــــدكُّ الـصـخـرَ بـالـصـخرِ
بِــــأفـــكـــارٍ مُـــحــمَّــلــةٍ ،،،، بِــثُــقـلِ جِــمـالـةٍ صُــفــرِ
يرثي عجز امته و ربما شعبه عن التوحد ضد عدونا الذي افقر كل شيء فينا :
أنــعـجـزُ أن نــكــونَ يــــدًا ،،،، عــلـى مــن جــاءَ بـالـفقرِ
تُــحــرِّكُــنــا عَــواطِــفُــنــا ،،،، كـمـا الـطوفانُ فـي الـبحرِ
ويـهـزمُـنـا صِــيـاحُ الــدِّيـكِ ،،،، حـيـن يـصـيحُ فـي الـفجرِ
نُخاتِلُ من شُعاعِ الشمسِ ،،،، نُــخــفـي الـــفــرَّ بــالـكـرِّ
كناية عن التخفي بحقيقة الخذلان و الخوار خلف وهم الشجاعة و الهمة .
لَـــعــل مُـقَـولـبًـا يــبـكـي ،،،، يَــزيــدُ الــشـرخَ بـالـكـسرِ
فــيـا مـــن جِـئـتَ بـالـمكرِ ،،،، عَــلــيـكَ دوائــــرُ الــمَـكـرِ
اللهم آمين .
كما رأينا فالقصيدة جيدة السبك متماسكة الابيات متناغمة الجرس محكمة الوزن جميلة الايقاع ، رغم حزنه و ايلامه ، تذكرك بهمهمة حزينة في حداء على درب طويل و ليل سادر ، و هذا دور و تأثير بحر الهزج الذي جعلته العرب لهزجها و حدائها و حزنها او حنينها او شكايتها ، فضلا عن اغراضه الاخرى .
أما المعاني فهي مكثفة كما بينّا الى حد انك لو فككت كل بيت لاخذت منه معان عدة تصنع بها بضعة ابيات .
و وحدة الموضوع سهّلت تكثيف المعنى و رصه و تقليصه الى اقل لفظ ، و مباشرة المعاني و ترادفها و تعاقبها و تسلسلها وصفا و شكاية وهجاء قوّى من وحدة الموضوع و ادامها و كللها بوحدة البيت و القصيدة .
وهذا النوع من البناء و الاتحاد هو ما كان يشير اليه اعظم نقاد العصر المنصرم و كتّابه الاديب عباس محمود العقاد في كتابه النقدي ، حيث يرى و كثيرون معه “أن القصيدة ينبغي أن تكون عملا فنيا تاما تترابط في بنائها كترابط جسد الكائن الحي و يقوم كل قسم فيها مقام جهاز من أجهزته ولا يغني عنه غيره في موضعه”.
و بحر الهزج الذي جاء مجزوءا على عادته -و كما فعل شاعرنا- هو مُلهم لادامة الايقاع ، كما ان همّ الوطن تناغم مع هزج الشعر كما قال نفس الشاعر -الذي عارضه الازدي – يوما :
وطني أنت ملهمي ،،،، هزج المغرم الظميّ
أنت نجوى خواطري ،،،،و الغنا الحلو في فمي
و ليس المعارضة باسلوب الخطاب شكايةً بدعا فقد عارض البردوني نفسه ابا تمام حماسيا في قصيدة عمورية ، و حوّل الامر الى شكاية ايضا كعادته و أولها :
مـا أَصْـدَقَ الـسَّيْفَ إِنْ لَـمْ يُـنْضِهِ الـكَذِبُ
وَأَكْــذَبَ الـسَّـيْفَ إِنْ لَــمْ يَـصْـدُقِ الـغَضَبُ
ويبنى هذا البحر من (مفاعيلن) ، أي على وتد فسببين ، تكور ست مرات كوزن تام ، ولكنه لم يأت تاماً إلا شذوذاً ، والكثير أن يستعمل مجزوءاً (بأربع تفعيلات)، وأن عروضه صحيحة أبداً وضربها يتراوح بين الصحة والحذف . والحذف عروضيا هو اسقاط السبب الخفيف الاخير ليصبح (مفاعي) فنحوله الى (فعولن) لتطابق الحركات و السكنات .
و بعد فقد كانت القصيدة الاصلية تحكي عن غزو من الداخل ، و القصيدة التي بين يدينا تحكي عما هو امرّ و عن غزوين احدهما من الخارج وقد حكّم اخر من الداخل ، و لذا فقد جاء مطلع القصيدة المعارِضة يحمل من المرارة ماهو اشد، كما ان شاعرنا اقتبس معناه من نفس مصدر اقتباس الشاعر الذي سبقه و ليس من الشاعر نفسه ، فكلاهما يتكئان على مقولة العربي الاسبق الذي كان محتارا في مصيبة عرضت عليه فقال : (ان قلت ادري فتلك مصيبة ، و ان قلت لا ادري فالمصيبة اعظم) فوظّف شاعرنا المعنى القديم توظيفا صحيحا تاما و مباشرا كما راينا في :
عجيب صمت من يدري ،،،،ثقيل زعم لا ادري
و التزم باللفظتين المعبرتين بين ال (ادري و اللادري) و لم ينقل المعنى الى (الجهل و مقابله) كما فعل شاعر القصيدة الاولى ، كما وان الشاعر السابق كرر صفة فظيع و اشتق منها الافظع ، بينما توسع شاعرنا على طريقته في تكثيف المعاني ليبلغ اقصى ماتُمكنه حدود الشعر و ضوابطه من الغرض المنشود بعرض مصيبة العراق او مصيبتي العراق الاثنتين التي جازت مصيبة اليمن الواحدة .و هذا مطلع الشاعر السابق عبد الله البردوني :
فــظـيـعٌ جــهـلُ مـــا يــجـري
وأفـــظــعُ مـــنــه أن تــــدري
و قدّمنا إن الوحدة العضوية هي أساس الصورة الفنية البنائي، ومن اهم ميزات النص الشعري المعاصر. غيابها يفقد الصورة انسجامها، و يربك توازن القصيدة و تماسكها . و هي التي توحد بين عناصرها ، وتجمع بين أجزائها ، وتنسق بين مستوياتها و افكارها وعاطفتها ، و هذا قد تفوق فيه شاعرنا ، وعن طريقه غاب الحشو من قصيدته تقريبا ، و بُترت الزوائد و اختفت الاستطالات، وبقي من القصيدة جوهرها في الدلالة الصورية ، و كُثّفت المعاني . و اذن فان أهم سمات الوحدة العضوية تتمثل في الانسجام والتنامي الداخلي، و وحدة الشعور، و الرؤى و الموضوع .
و هذا ماحققه الشاعر و بلغته القصيدة .

 من مقالات الكاتب 5 - عراق العروبة

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.