المليشيات المسلحة تحكم العراق
المليشيات المسلحة تحكم العراق
لم يكن وجود الميليشيات المسلحة في العراق وليد الصدفة، او جراء حاجة هذا الحزب او تلك الطائفة، لكسب مزيد من القوة ضد الاخرين، وانما تم تشكيلها وتنظيمها في إيران قبل عدة عقود، وتحديدا يوم السابع عشر من شهر تشرين الثاني عام 1982. كان ابرزها فيلق بدر، الجناح العسكري للمجلس الاعلى للثورة الإسلامية، وحزب الدعوة ومنظمة العمل وحركة المجاهدين. في حين حددت مهمتها بإسقاط نظام البعث واستلام السلطة في العراق. ليتسنى لإيران تحقيق حلمها الامبراطوري بضم العراق الى الجمهورية الاسلامية، او على الاقل تحويل العراق الى قاعدة متقدمة لتنفيذ مشروع الهلال الشيعي الذي يصل الى لبنان عبر العراق وسوريا.
بعد طول انتظار، وجدت هذه المليشيات، ضالتها في الاحتلال الأمريكي للعراق، وتحقيق الهدف الذي قامت من أجله. خاصة وأن عددها تجاوز العشرات، وأن سلاحها بلغ من القوة التي يصعب تجاهلها. لتتحد لاحقا تحت اسم “البيت الشيعي” وفق شعار “أخذناها وبعد ما ننطيها”. أما الخطوة الكبرى التي قامت بها هذه المليشيات، هي تشكيل حشد شعبي مسلح من الراس حتى اخمص القدمين. ليس الهدف منه الدفاع عن العراق والاماكن المقدسة كما قالت، وانما الهدف منه أن يكون نواة او مقدمة لتشكيل الحرس الثوري العراقي، على غرار الحرس الثوري الايراني، الذي أوصى به الامام الخميني، اعتقادا منه بأن الجيش النظامي، ومهما بلغ من قوة، لا يمكنه الوقوف في وجه الجيوش الاستعمارية القوية. على عكس المليشيات التي تستطيع مواجهة اية دولة قوية، جراء قدرتها على خوض حروب عصابات طويلة الأمد.
اما الادعاء بان هذا الحشد، انبثق نتيجة فتوى الجهاد الكفائي، التي أصدرها محمد علي السيستاني ضد تنظيم داعش الارهابي، فهذا ادعاء باطل، الغرض منه إضفاء صفة الشرعية والقدسية على وجود هذه المليشيات المسلحة غير المشروع. فالحشد المذكور ظهر للوجود قبل الفتوى، بثلاثة شهور، وتحديدا في يوم الثالث عشر من آذار عام 2014، بعد اجتماع عدد من المليشيات الكبيرة، في بيت نوري المالكي تحديدا. في حين صدرت فتوى الجهاد الكفائي في الثالث عشر من حزيران من نفس العام، اي بعد ثلاثة شهور من انبثاق حشد المليشيات. ثم إن فتوى الجهاد الكفائي لم تدعو الى تشكيل حشد شعبي قوامه “البيت الشيعي”، وإنما دعت جميع العراقيين “القادرين على حمل السلاح المشاركة في القتال إلى جانب الأجهزة الأمنية الحكومية للدفاع عن العراق والأماكن المقدسة”. وخير دليل على ذلك، عودة غالبية المتطوعين الى منازلهم، وأعمالهم بعد تحرير مدينة الموصل، من يد تنظيم داعش، والتحاق ما بقى منهم بالجيش العراقي، بناء على طلب السيستاني نفسه.
لكن هذا ليس كل شيء، فقاسم سليماني، ممثل الولي الفقيه الايراني علي خامنئي، والمشرف على المليشيات في العراق، هو من كان وراء انبثاق حشد المالكي، ووراء فتوى السيستاني ايضا. ففيما يخص الحشد، فقد صرح المالكي نفسه، وفي مناسبات عديدة، بانه من شكل الحشد الشعبي وليست المرجعية الدينية، وان سليماني قد ساعد في تحقيق هذا “الانجاز العظيم”. في حين اكد الناطق الرسمي لحركة النجباء، المهندس نصر الشمري، بان سليماني كان وراء صدور فتوى الجهاد. من خلال كلمة ألقاها في مؤتمر “دور المقاومة الاسلامية في الدفاع عن الأماكن المقدسة” في الواحد والثلاثين من شهر كانون الاول سنة 2020. حيث قال وبالحرف الواحد، ” الى أن في ذروة هجمات داعش، حيث سقطت أجزاء كبيرة من العراق وتعرضت المراقد المقدسة للخطر، حضر الحاج قاسم سليماني في بيت المرجع علي السيستاني، وشرح له الوضع بالتفصيل، وطلب منه إصدار فتوى بالجهاد ضد الإرهابيين”.
لقد بلغت هذه المليشيات اوج قوتها في عهد حكومة عادل عبد المهدي. حيث عبرت عن نفسها، بأن سلبت من عبد المهدي حقه في اختيار أعضاء حكومته، تاركة له مهمة نقل اسماء المرشحين من قبلها إلى البرلمان للمصادقة عليها. بل وصل الأمر الى حد توبيخ عبد المهدي وتهديده احيانا، حين سولت له نفسه الاعتراض على هذا المرشح او طلب تبديله بمرشح آخر. فعلى سبيل المثال، قال هادي العامري زعيم ميليشيا منظمة بدر، “ان عبد المهدي ما كان له نيل هذا المنصب إلا بعد موافقته مقابل التزامه بكل طلباتنا”، واضاف “مثلما أتينا به نخرجه متى شئنا”.، وقال نوري المالكي ” دعونا نكون واقعيين ولا نخدع انفسنا، حيث ليس بإمكان رئيس الوزراء رفض طلباتنا” ودعم هذا الموقف بتصريح شديد اللهجة قال فيه “إنه لن نسمح باستبدال أي مرشح، او الاعتراض عليه، وان كتلته قررت عدم تغيير أي من المرشحين للحقائب الوزارية الثمانية المتبقية، في حين قال قيس الخزعلي زعيم ميليشيا عصائب اهل الحق، “بان وزارة الثقافة من حصته ولن يتنازل عنها، وليس بإمكان كائن من كان حرماننا منها” اما ابو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي حينها، فقد قدم نصيحة “ثمينة جدا” الى عبد المهدي وباللهجة العراقية” بقوله ” خلي يصير عاقل احسن له”، اي احسن له. لينتهي به الحال الى الرضوخ أمام هذه المليشيات وتسليم السلطة لهم، ليحكموا العراق على طريقة المافيا الايطالية، التي تحكمها العوائل الكبيرة وتدير شؤون العمليات الاجرامية في العالم.
اما اليوم وفي عهد خليفته مصطفى الكاظمي، تقدمت المليشيات خطوات كبيرة للأمام باتجاه استلام السلطة علنا. حيث جعلت من الكاظمي لعبة بيدها، ووصل الأمر إلى معاقبته على أي خطأ يرتكبه أو هفوة تصدر منه. فعلى سبيل المثال لا الحصر، اقتحمت مليشيا حزب الله العراقي المنطقة الخضراء، لإطلاق سراح احد اعضائه، الذي اعتقله الكاظمي بتهمة الاجرام، وسط هتافات طالبت بإسقاطه وتمزيق صوره امام وسائل الاعلام والدوس عليها بالأقدام. وقبل عدة أيام، وتحديدا يوم الخميس الماضي، قام هذا الحزب بتحدي الكاظمي باستعراض لقواته العسكرية في عدد من مناطق بغداد المشهورة، مثل الكاظمية والكرادة والمنصور، رافعة صورته ومرسوم على وجهه حذاء وتحته كتابة تقول، حان وقت قطع اذنيك. لا لشيء سوى ان الكاظمي أصدر توجيها برفع سعر الدولار الأمريكي. وبدلا من معاقبة هؤلاء الاشرار على هذا الاستهتار، خضع الكاظمي لمطلبهم ولوح اليوم بعدم تغيير سعر صرف الدولار.
هذا الاستهتار المقصود يعني، بما لا يدع مجالا للشك، بان المليشيات المسلحة قد استلمت السلطة في العراق فعليا. ضاربة عرض الحائط اخر ادعاء حكومي حول هيبة الدولة. بل ضربت أبسط الاعراف السياسية والديمقراطية التي دوخوا رؤوسنا بها، واستهانت بالقوانين وأنهت صلاحيات “الدولة” ومؤسساتها كافة التي ثبتها دستورهم العتيد. وبالتالي فإن كاتب هذه السطور لا يستبعد أبدا الاعلان، في اي وقت، عن تشكيل الحرس الثوري العراقي، لحماية سلطتهم من خطر السقوط. بل لا نستبعد اعلان ولاء العراق للولي الفقيه علي خامنئي. خاصة وان الكاظمي قد فشل في تحقيق وعوده القاطعة بحل هذه المليشيات ونزع سلاحها، او على الاقل الحد من استهتارها. والمصيبة ان ما جري ويجري، ليس كما يتخيل البعض، بعيدا عن عيون الأمريكان، على الرغم من ولاء هذه المليشيات لإيران، التي تنافسها على النفوذ في العراق، وإنما العكس صحيح تماما. فما يحدث يمثل بالنسبة لامريكا، عز الطلب، ” كما يقول العراقيون” لان ذلك ينسجم مع ما يسمى بنظرية الفوضى الخلاقة، التي تصب في خدمة مخطط تدمير العراق دولة ومجتمعا.
أما الذين يعتقدون بان الكاظمي قادر على تنفيذ وعده بنزع سلاح هذه المليشيات، تمهيدا للقيام بالاصلاحات التي طالب بها ثوار تشرين. فهذا الاعتقاد لا نصيب له من الصحة. فالكاظمي جزء من العملية السياسية، وحكومته كبقية من سبقها من الحكومات، وانهم جميعا لا يملكون حرية القرار ولا حتى حق الاختيار، وانما هم اداة بيد المحتل الامريكي وتابعه الإيراني. وان هذا المحتل ليس من مصلحته احداث اي تغيير او اصلاح جدي، يخدم الشعب العراقي. لأن ذلك يتعاكس مع مشروع تدمير العراق دولة ومجتمعا. بمعنى آخر اكثر وضوحا، فإذا حدث مثل هذا التغيير الذي يصب في خدمة العراق والعراقيين، فان امريكا وايران لن تقبلا به. فاستمرار وجود المليشيات الى جانب الفساد والسرقة، وتجويع الشعب وإذلاله، وتحطيم إرادته وصموده، يقوي الأساس الذي تستند إليه دول الاحتلال للحفاظ على غنيمتها. وبالتالي، وهنا بيت القصيد ومربط الفرس، فان اية مراهنة على احداث اي تغيير لصالح العراقيين من قبل هؤلاء الاشرار، هي مراهنة فاشلة قطعا. وبالتالي لا طريق للخلاص من المحنة، قبل الخلاص من هذه العملية السياسية، ومليشياتها المسلحة ودستورها الملغوم. وهذا لا يتم إلا عبر التفاف عموم العراقيين حول ثورة تشرين وتقديم كل الدعم والإسناد لها، لتعود كما كانت قوية وواعدة.
Source : https://iraqaloroba.com/?p=6955