النكسة التي فرّخت نكسات…؟!
النكسة التي فرّخت نكسات…؟!
تحل الذكرى الـ54 لنكسة حزيران/ يونيو 1967، في وقت أُتخمت فيه الذاكرة العربية بكم هائل من الأحزان والأوجاع والآلام، إلى جانب العمليات المتكررة من تزييف الوعي، وغسل المخ لإفقادها حيويتها واتقادها وإفقادها حضور القضايا العربية العادلة. تحل الذكرى وفيما تزداد الأوجاع العربية وتتراكم النكسات والكوارث على شعوب المنطقة، يزداد كيان الاحتلال الإسرائيلي إرهابا وإجراما وتنمرا على الحقوق الفلسطينية والعربية، وانتهاكا لحقوق الإنسان الفلسطيني والعربي. ليست أحداث اليوم في أقطار العرب بنت ساعتها، أو تنفيذ جاء عرضا وارتجالا، إنما خطط لسيناريوهات متعددة تم وضعها منذ زمن بعيد، تركت لتوقيت مؤات كما هو حال اليوم. لقد كان واضحا تماما، أنه حفر لنظام صدام حسين، ولمعمر القذافي، ولنظام الأسد، باعتبارها (مع كل التمايز) لها صفات قومية وعروبية، مهما حاول بعضها لاحقا أن يتهرب من هذا القدر، الذي تبناه وصار عمره السابق واللاحق. لهذا تبدو هزيمة يونيو/حزيران المشؤومة واحدة من الممهدات التي صنعت لتكون جزءا من معارك ليس لها نهايات، وسيظل الأمر قائما، ولا تبدل فيه لأنه مكون استراتيجي ثابت ضد الأمة.
لم تعد هزيمة حزيران متناً للرؤى والتصورات… ثمة هزائم داخلية أخرى طغت على الإنسان العربي.
غلبتنا الأزمنة واليوم نعارك الحاضر بكل ما فيه من عناصر صراع ضد الأمة. ومن يتأمل المشهد العربي الراهن جليا، ونحن نقترب من نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، لن يجد صعوبة في إدراك أن حرب السادس من يونيو 1967 لا تزال تأثيراتها المدمرة حاضرة في المشهد برغم مرور 54 عاما على ذكراها، وكأن العقل العربي المعاصر قد أسقط عديد الدروس التي كان قد تعلمها سابقا من تلك الحرب، مع أن السياق والأجواء والتحديات والأسباب تكاد تكون متشابهة إلى حد كبير بين الماضي البعيد والحاضر القريب، وفقط يتركز الاختلاف في تغير الأجيال.
وليس ذلك ضربا من ضروب جلد الذات الذي ارتبط بهذه الحرب، أو تذكيرا بواحدة من أقسى المحن العربية، ولا مبالغة في تضخيم حالة الهوان العربي الراهنة، ولكنه محاولة موضوعية لقراءة الواقع وربطه بجذوره التاريخية، بهدف إفاقة الأمة واستنهاض الهمم مجددا، لأن الأمم الناهضة لا تستفيد فقط من أسباب النجاح، وإنما أيضا من عدم تكرار أسباب الفشل. وربما لا تتفهم الأجيال المعاصرة دواعي الربط بين ما تم نسيانه من دروس والحالة الراهنة من زمن المحنة، بالنظر إلى أنه قد مضى زمن طويل على وقوع هذه الحرب وأصبحت قصتها في أدراج التاريخ المغلقة، ومن ثم لا مبرر لاستعادة التذكير بدروسها، فضلا عن ذلك يمكن أن يعتبر تنزيلا تحكميا لهذه الدروس على واقع مختلف من حيث الظروف والزمان والمكان، ولكن هذا مردود عليه بسهولة بأن الأحداث الكبرى الفارقة في حياة الشعوب وفي المقدمة منها الحروب لها نتائجها المعرفية التي تشكل عقل ووجدان الأجيال عبر الزمن مهما تغيرت الظروف.
لا مجال للخوض في التفاصيل، فكلها معروفة تقريبا، حتى وان اختلفت الروايات حسب زاوية الناظر إلى وقائع التاريخ. إنما الخلاصة أن إسرائيل شنت حربا على جبهات جوارها، التي كانت معروفة باسم ”دول الطوق”، وهزمت جيوشها واحتلت المزيد من الأراضي التي لا يزال بعضها محتلا حتى اليوم (الجولان السوري والضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة). جاءت الهزيمة في وقت ذروة المد القومي العربي وشعور العرب ما بعد الاستقلال باستعادة الكرامة والقدرة على تحقيق أهداف الشعوب العربية في البناء والتنمية والتطور. وجاءت الهزيمة لتنسف كل تلك الآمال، وتحول مقدرات المنطقة ـ أو على الأقل مقدرات دول المواجهة ـ نحو ”المجهود الحربي” بهدف ”العمل على إزالة آثار العدوان”. وتعطلت مشروعات كبرى وتأزمت قضايا اجتماعية/اقتصادية، ناهيك طبعا عن تفجر كثير من الخلافات التي كانت مكتومة بنشوة الاستقلال وآمال التنمية والتطور.
لقد انتصرت إسرائيل في معركة، ولكن الحرب ظلت مستعرة ومستمرة حتى يومنا هذا. استرد العسكريون العرب شرفهم في حرب أكتوبر 73 على الجبهتين المصرية والسورية، وأثبتت المقاومة قدراتها في فلسطين ولبنان، لكن إسرائيل حققت الكثير، ومن ذلك اتفاقية وادي عربة، واتفاقية كامب ديفيد واتفاقية أوسلو، وأخرجت مصر من ساحة المواجهة معها، كما أن إسرائيل حققت مكاسب جمة جراء الانقسام الفلسطيني، وأصبح الواقع يقول بوجود حكومتين فلسطينيتين إحداهما في الضفة الغربية ومقرها رام الله، والثانية في القطاع ومقرها غزة. إن تعزيز الانقسام الفلسطيني على هذا النحو، ينحي جانبا أملا جماهيريا ضروريا هو استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية ورقة القوة الكبرى التي كان الشعب الفلسطيني يمتلكها إلى أن حدث ما حدث منذ سنوات بين حركتي حماس وفتح.
أكثر من محزن ومؤسف ما يجري في الساحة العربية عموما من نكوص عن أهداف الأمة في التحرير والوحدة، بل إن جامعة الدول العربية أيضا كرست الانقسام وحالة الضعف عربيا، فاللعبة إياها عادت ومورست، التفرد بكل قطر وعند سقوطه يتم الانتقال إلى الآخر… أمة مقتولة في وحدتها، ومقتولة أيضا في قطريتها، فلا عتب على الغرباء الذين يستسهلون الدخول إليها ورميها في المواجع وفي نار احترق فيها وطن بكل مقاييسه الوطنية. فاليوم لا سورية على خاصرتها ربيع معاش، ولا بغداد الأسود بعدما قاتلتها الضباع، ولا ليبيا التي يريد المحتل التركي أن تصبح ولاية عثمانية، ولا يمن تعيدنا إلى صحوة التاريخ، ولا مصر عليها أن تقود أمة، فإذا بها تواجه عواصف ومؤامرات… ولم تعد فلسطين هي القضية المركزية للأنظمة العربية في الجامعة…
لقد مرت الذكرى الرابعة والخمسون للنكسة، لكنها غابت عن الإعلام العربي أو أغلبه، مثلما غابت القضية الفلسطينية من دائرة الاهتمام العربي الرسمي ويتم إلحاق الشعبي به، في ظل جائحة ”الكورونا”، بل حولت القضية إلى سلعة في لعبة تنازلات جالبة لنكسات أو مؤذنة بتوالي نكسات في أكثر من قطر عربي، وإذا كان الوطن العربي من محيطه إلى خليجه يعيش نكسة واحدة، فها هو اليوم يعيش نكسات، وإذا كان هناك شعب عربي واحد مهجر مشرد، وهو الشعب الفلسطيني، تكالبت عليه قوى الاستعمار واستباحت حقوقه كاملة، فإن أغلب الشعوب العربية اليوم مستباحة حقوقها وثرواتها وفي الملاجئ والشتات والمنافي، وإذا كانت الأمة العربية تؤمن بالقواسم المشتركة وهي العادات والتقاليد والدين والتاريخ المشترك، وتتمسك بها، فإنها اليوم عبارة عن طوائف ومذاهب شتى متناحرة متقاتلة، في عملية استعادة لقيم الجاهلية وحروبها الشهيرة كحرب داحس والغبراء، نزولًا عند رغبة قوى الاستعمار بقديمه وجديده وخدمة لعدو الأمة كيان الاحتلال الصهيوني.
وللأسف ما نعيشه اليوم، ونتيجة سياسة بعض الأنظمة العربية، وبثهم سموم الفتنة والطائفية لتحويل أبناء هذه الأمة إلى مذاهب تتقاتل مع بعضها بعضاً وتؤدي إلى ضعف هذه الأمة وتفتيتها وتقسيمها أكثر مما هي مقسمة، وتلميع صورة الغرب بعامة وإسرائيل بخاصة ”وفي أنهم لا يشكلون خطراً على الأمة” وإنما هذا النظام أو ذاك! هو الذي يشكل الخطر، ويستمرون في هذا النهج المدمر للأرض والبشر، وفي المقابل يتباكون على ذلك، وفي الوقت نفسه تستعد شركات النهب الإعمارية، لتقاسم بناء ما دمرته مخططاتهم ومن المال العربي نفسه، الذي كان على أهله أن يوظفوه في تنمية بلدانهم، والقضاء على الفقر وإقامة بنى تحتية تعزز قدراتهم المختلفة، ولاسيما العسكرية منها لمواجهة العدو المتربص بهذه الأمة والحيلولة دون التعرض لنكسات وهزائم جديدة.
إن هذه الأنظمة العربية التي رهنت إرادتها بإرادة أعداء هذه الأمة، وليس بإرادة أبنائها ومصالح شعبها في الأقطار التي تحكمها، ظناً منها أن ذلك سيطيل عمرها ويبقيها متربعة على عروشها، وتدفع النزر اليسير من ثرواتها لأبنائها، بينما تدفع معظم ثرواتها لأعداء هذه الأمة، ويظن هؤلاء في أن فترة الغفوة ستطول، وفاتهم أن الأمم الحية لابد من أن تستيقظ من سباتها، وأن تعرف أين مصلحتها الحقيقية وأن تكتشف مكامن قوتها… ففي دحر العدو الداخلي، تسهل مواجهة العدو الخارجي والانتصار عليه، وتالياً لابد من أن نكون مؤمنين بأن هذا اليوم آت لا ريب فيه، ولا يمكن لهذه الأمة العربية التي حققت في تاريخها القريب والبعيد انتصارات لا ينكرها حتى خصومها، إلا أن تحقق ما يرنو إليه أبناؤها في بناء دولتهم القوية القادرة على تحرير أرضها العربية المحتلة، وأن تكون الدولة الأنموذج في إرساء العدالة ونشر الديمقراطية ومساعدة الشعوب الأخرى في إنجاز حريتها واستقلالها ومحاربة الظلم والاستغلال على وجه هذه البسيطة.
خلاصة الكلام: في ذكرى النكسة ـ وما أكثر نكساتنا وهزائمنا ـ لابد من معرفة العدو دون تهويل، واستيعاب القدرات الذاتية والانطلاق إلى التغيير من خلالها، وإن الموقف العربي الفعلي الموحد، والمتحرر من جميع أشكال التبعية الأجنبية، هو السبيل الوحيد لتمكين الأقطار العربية من مواجهة الخطر الإسرائيلي واسترداد الحق العربي المغتصب، والنهوض بالأمة العربية.
النكسة التي فرّخت نكسات…؟!
Source : https://iraqaloroba.com/?p=9395