نصف قرن على رحيل عبد الناصر… ماذا تغيّر؟
نصف قرن على رحيل عبد الناصر… ماذا تغيّر؟
خمسون عاما مضت على غياب جسد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لكنه الحاضر دوما فينا بمنجزاته الوطنية الرائدة، وبشعاراته الوطنية والقومية العربية التي تتصف بكل معاني العزة والكرامة والكبرياء. هذا القائد الذي سارت وراءه جماهير امتنا العربية الطامحة إلى تحقيق الإنجازات الوطنية الملموسة والتقدم، ومجابهة المخططات الاستعمارية التي تستهدف منطقتنا العربية، تاريخا ووجودا وحضارة.
في زمن تبدل الخنادق والبنادق، من مكان إلى مكان ومن كثف إلى آخر كما تبدل ربطات العنق، وفساتين الفنانات، نتذكر القائد عبد الناصر، القارىء العبقري للمستقبل يوم كشف الحجاب عن وجوه المتآمرين على الإسلام والعروبة من إخوان الشياطين والتكفيريين، واعتبرهم عقبة كأداء في طريق الأمة العروبية، وأن لا حل في التعامل معهم إلا باقتلاعهم وإلقائهم مع جاهليتهم وتخلفهم في دهاليز التاريخ.
نصف قرن مضى على رحيله، أنجزت ثورات وتواصلت خيارات، واستمرت تطلعات أرادها أن تكون، وفعل ما استطاع أن يتحقق، ويُظهر للناس فيه السبيل والغد… في الحركات الشعبية التي اجتاحت أقطارا عربية مؤخرا رفعت صورته، وترددت كلمات له فيها، وهذا وحده أحسن دليل على أن جمال عبد الناصر، يظل اسما ومعنى ودلالة وشاهدا وقدوة… بعد عقود من زمن غيابه وهكذا يستعاد وهجه لدى الأجيال الجديدة التي لم تعش زمنه وتتذكره، شامخا رافعا رأسه العربي إلى سماوات النصر واسترداد الحقوق، باللاءات والهامات التي لم تنحن ولن تتراجع.
وما ينشر له في السنوات الأخيرة على وسائل التواصل الاجتماعي من صور وفيديوهات عن أيامه في الحكم، وخطبه، يسترجع المرء فيها تاريخا معاصرا للعرب، وصورة لأيام كتبت للعرب، بكل ما حصل وحدث وجرى، نتذكرها بحزن ونستعيدها بشوق ونتألم لمرورها كما كانت ودون أن نحقق ما كان عبد الناصر يحلم به وبها، وتحلم الجماهير مثله. في قراراته وتحالفاته، في مواقفه واجتهاداته، في عزمه وإرادته، كان ومازال مثالا ونموذجا عربيا في المشهد السياسي العربي والإسلامي والإنساني.
صوته وصورته وإشارات رأسه وحركات ساعده في خطبه ولقاءاته مع الجماهير، الفقراء والجنود والعمال والفلاحين والمثقفين الثوريين… والتي ردت له محبتها في رفض استقالته وفي توديعه الأخير، حيث كانت الجماهير العربية ليست في مصر وحدها، وهذا ما يسجل لاسمه ودوره وتاريخه.
خمسون عاما مضت على غياب جسد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لكنه الحاضر دوما فينا بمنجزاته الوطنية الرائدة، وبشعاراته الوطنية والقومية العربية التي تتصف بكل معاني العزة والكرامة والكبرياء. هذا القائد الذي سارت وراءه جماهير امتنا العربية الطامحة إلى تحقيق الإنجازات الوطنية الملموسة والتقدم، ومجابهة المخططات الاستعمارية التي تستهدف منطقتنا العربية، تاريخا ووجودا وحضارة.
أبناء أمتنا العربية ساروا وراء جمال عبد الناصر تحت شعاره: ضرورة تصفية بقايا الاستعمار من المنطقة ومن آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية “الذي يتوجب عليه أن يحمل عصاه على كاهله ويرحل”.
توحدت جماهيرنا العربية مع القائد في رؤيته للصراع مع الكيان الصهيوني، وأن “ما اغتصبه هذا العدو من الأرض والحقوق العربية لا يسترد بغير القوة”.
ويكفيه فخرا أنه كان محاربا من أميركا والكيان وعديد الدول الغربية إبان الحرب الباردة، وهو الذي قال في أحد خطاباته: “اعلموا… أنه إذا رضيت عني أميركا، فمعنى ذلك: أنني أسير على خطأ”.
عبّر عن آمال وأحلام وتطلعات وحاول في نهج وتوجهات ومسارات، بقي اسمه وفعله وأثره واندثر خصمه وعدوه وكارهه، في التذكر والاستشهاد والدلالة. المآثر أمجاد والخطايا سجال، في غضب الشارع أو في تظاهر الجماهير أو في صرخة الغلابة أو في دموع الرجال، وفى لعهده وأخلص بجهده رغم كل ما يمكن انتقاده أو تسجيل نقاط على أعماله.
الزعماء الخالدون بأسمائهم وفيما حفلت به صفحات تاريخهم وأفعالهم… ليس عبثا أن اسمه، جمال عبد الناصر، صار عنوانا عربيا للتحرر والثورة، وبات غصة موجعة في خطط الأعداء وسهما مرا في مشاريع الدول الاستعمارية وأتباعها المهزومين.
لقد عملت هذه القوى الإمبريالية وأذيالها على وأد الأمل فيه، وسعوا إلى قطع الحلم ووقف الشعور بالقدرة العربية والإرادة الشعبية والخيار الوطني القومي والتطلع الإنساني، ورغم كل ذلك أو بسببه تمكن من الإنجاز والبقاء.
مسلسل حروبها، من عدوان إلى آخر، وما سبقه وما لحقه، من التآمر والغدر، من التواطؤ والخديعة، تمكنت في بعضها وحققت بعض ما رغبت وخططت، إلا أن جمال عبد الناصر وشعبه وجماهير أمته لم يرضخوا، ولم ييأسوا.
لقد خبر صاحب الذكرى عملاء الصهيونية وأمريكا في الدار العربية وهم – كما سماهم – إخوان الشياطين ومفرداتهم من قاعدة وتكفيريين ودواعش، حيث حاولوا اغتياله عدة مرات منها غداة كان يخطب في ذكرى الثورة في ميدان المنشية عام 1954 ولعل الجيل الذي سبقنا يذكر، لأن المحاولة المجرمة كانت على الهواء مباشرة كيف كان الرصاص الغادر يلعلع على يمين القائد وشماله، وسط ذهول غير مسبوق من قبل الجماهير المحتشدة في الميدان حيث لم يرمش له جفن بل صرخ بالجموع الهادرة: أيها الرجال اثبتوا في أماكنكم فإن قتل جمال فكلكم جمال عبد الناصر!
وقد تعرض للاغتيال ثانية غداة كان في الطريق جواً إلى دمشق لتوقيع ميثاق الوحدة عام 1958… ويقيني أن ثالثة الأثافي كانت يوم نجحت المؤامرة في إيصال (بالدواء الداء) إلى جسد عبد الناصر حيث تلاشى قلبه وانهار على أرض مطار القاهرة بينما كان في وداع الملوك والرؤساء الذين حشدهم لإجراء المصالحة وحماية المقاومة الفلسطينية وإغماد السيوف التي كانت تتناهشها في عمان أيلول الأسود.
لقد أصبح صاحب الذكرى رمزاً للعروبة على امتداد العالم في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم رغم عمره القصير حيث تألق في قيادة تحالف عدم الانحياز الدولي إلى جانب (نهرو وتيتو، وشوئن لاي) كما أبدع في وفائه والتزامه طبقته الكادحة التي تمثل الملايين في أرض الكنانة، فكانت قوانين العدالة، وتوزيع الأراضي على الفلاحين، وكان السد العالي المعجزة الاقتصادية العالمية، وما رافق ولادته من ضغوط أمريكية صهيونية تنوء بحملها الجبال الرواسي، وكانت مصانع حلوان للحديد والصلب، وبداية النهضة الصناعية العملاقة، وغير المسبوقة في العالم الثالث.
هذا غيض من فيض عن زعيم مر على مصر والمنطقة، والعالم حاملا معه أحلام عاشق لبلاده وأمته ونبرة صوت رنان وكاريزما خطيرة. لقد ثبت أن الأم مصر التي تحتضن تلك التجربة بكل امتدادها الشعبي الواسع، من “التيار الشعبي” إلى قوى ناصرية بالجملة وأخرى قريبة، تعيد ترتيب نضالها على قواعد ثابتة المعاني، ثم إن التجربة المصرية تلك، لم تكن أبدا حكرا على المصريين، فها هي أعمدتها ممتدة من اليمن حيث تشكل قوة بارزة، إلى لبنان، ثم إلى المغرب وتونس، إضافة إلى الصامتين منها وهم كثر في ليبيا، دون أن ننسى السودان والبقية الباقية من العالم العربي.
سوف تعود تلك الزعامة ضمن سيرتها وإرثها الهائل الذي صنعته في زمانها، وقاست من أجله أصعب الضغوط الخارجية، إلى أن أصيبت بالصمت لفترة، لكنها ظلت ملهمة أجيال عاشتها، لكن الأميز فيها، أن الأجيال التي تعيشها اليوم وترفع صور زعيمها في الساحات والميادين لم تتعرف عليه ولم تعرفه وجها لوجه، وكل ما رأته فيه، أنه المفجر الكبير للحرية والتحرر وللوحدة العربية والعامل بلا هوادة من أجل عدالة اجتماعية وإنسانية تنتفي فيها صورة الفقر من الحياة المصرية وغيرها، فإذا بها نموذج عالمي أيضا دفع بالثائر تشي غيفارا لاستلهامها.
فسيرة الزعامة الناصرية تدق الحياة العربية من جديد، تعود إلى أنفاس صانعها، فتبحر الملايين نحو تجربة مميزة ناضجة قتلوا مفجرها وهو في ريعان شبابه (مات عبد الناصر وعمره 52 سنة فقط)، وكانوا قد حاربوه بقوة إسرائيليا وأميركيا وغربيا، وحتى من قبل بعض العرب.
ثمة نظرية صينية تقول، عندما ينزعج عدوك منك فأنت على حق، فكيف إذا شن عليك حروبا مستمرة منها عسكري وغيره من الحروب الكبرى.
خلاصة الكلام: في ذكرى رحيل عبد الناصر يطل علينا ليذكرنا بفلسطين والقدس والمسجد الأقصى، وليقول لهؤلاء الذين تمادوا في غيهم وانحرافهم وأوهامهم أن البوصلة العربية والناصرية على وجه الخصوص مازالت نحو فلسطين. رحم الله الزعيم عبد الناصر يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا، ورحم الله الشاعر العربي الكبير نزار قباني، الذي قال في ذكرى ميلاد الزعيم بعد رحيله:
تضيق قبور الميتين بمن بها وفي كل يوم أنت في القبر تكبر
*كاتب صحفي من المغرب.
Source : https://iraqaloroba.com/?p=1243