ومضات الذاكرة : اختبار الروح 13

عراق العروبة
مقالات وآراء
10 سبتمبر 2021
ومضات الذاكرة : اختبار الروح 13

                               ومضات الذاكرة : اختبار الروح 13                              

عراق العروبة

صلاح المختار

ومضات الذاكرة : اختبار الروح 13

فلاش باك: حفلة التعذيب الأقسى                                    

ليس اكثر تأثيرا على الانسان من كلمات جارحة تندس في خلايا الروح وتبقى هناك تطل برأسها بين الفينة والاخرى لعدة عقود وربما طوال العمر مذكرة صاحب الجسد بان روحه قد جرحت وان عليه ان يتعلم من جروحه،عندما تعرضت لحفلات تعذيب متعددة في ازمان مختلفة كان جسدي يتحمل الالام رغم وجعها المدمر لانك تواجه خياران لا غير فاما ان تسقط معنويا وتنتهي بنظر نفسك ناهيك عن سقوطك بنظر غيرك واما ان تتحمل وتصمد ولا تنهار فتحترم نفسك وتجبر حتى اعداءك على احترامك .عندما القي القبض علي كانت اول مواجهة مع المحققين في الثالثة فجرا وهي لحظة وصولهم وهم يحيطون بي الى مقرهم فلم تقال لي كلمة واحدة بل كنت ارى النار تقدح من عيونهم كراهية ، قال كبيرهم قيدوه (ودكوه) ودكوه باللهجة العراقية تعني اضربوه وهي مشتقة من دق العربية، بدون كلام وبصمت خيم على الغرفة ولم يكن يخترقه الا صوت شد الحبال بيدي ورجلي بعد ان القيت ارضا على وجهي وبطني! وبعد ان تم تقييد الرجلين واليدين ربطا معا بحبل اخر فصار جسدي شبه مقوس وفيه رجلي مرفوعتان،احاط بي اكثر من خمسة محققين وبيد كل منهم صوندا(انبوب بلاستيك) وفي داخله اسلاك معدنية وبدون كلام ايضا بدأت الحفلة بضرب باطن قدمي بالتناوب فكل محقق يضرب ويترك للاخر فرصة ضربي ، وكانت كل ضربة تقتلع روحي وكنت أئن كاتما صوتي، وكنت اتقلب يمينا ويسارا فيعيدوني الى مكاني حيث يمكن ضربي بسهولة ، وكان كبيرهم يجلس خلف طاولته ينطر الي وانا اتلوى الما كاتما انيني، بعد زمن قدرت انه خمسة دقائق فقدت الوعي ، وبعد فترة وجدت نفسي مبللا بالماء البارد،رأيت اشباحا حولي تنظر الى وببطء اخذت ارى جيدا ، كانت نفس العيون التي يتطاير شررها تحيط بي كاحاطة ضباع جائعة بفريستها الثمينة! قال لي احدهم:الن تعترف ؟ كنت مازالت منهكا لدرجة العجز حتى ان التمتمة التي خرجت كأنها حشرجات الموت:اعترف عن ماذا؟ 

شتمني احدهم بينما ركلني اخر وهو يضربني بالصوندا وهو يقول : هل تتظاهر بعدم معرفة ما نريد منك ؟ نريدك ان تعترف على من معك في الحزب وعن المطبعة ؟ نطقت بكلمات كانت تتلاشى ما ان تخرج من فمي،كنت اجرها جرا من فمي الذي لم يعد يستطيع النطق، كنت احس ساقي وقد اشتعلا كالنار وكان قلبي قد تحول من مكانه وصار ينبض في ساقي ، ولم اكن استطيع ان اراهما لانني مقيد بطريقة لا ارى من خلالها الا غيري! كان جسدي محطما يصرخ الما ، وكانت فكرة انني ساموت حاضرة امامي اذ لم اكن اعلم ما هي درجة الالم التي اتحملها قبل الموت ولكنني كنت اسير فكرة ان شدة الالم تجعلني افضل الموت على تحمله .

سمعت احدهم يصرخ اجب على اسئلتنا : من هو مسؤولك ؟ ومن هم الذين تتولى مسؤوليتهم ؟ واين المطبعة؟ قلت :لا اعلم وصمت ، قال كبيرهم وبعد ان مضت فترة: دكوه . عادت الصوندات تنهال على باطن ساقي وكانت مع كل ضربة تسحب معها روحي من جسدي واظن انني ساموت فورا ، ولكنني كنت احيا ولا اعلم كيف ؟! صرخ كبيرهم : كيف لاتعلم وانت قيادي في الحزب؟ صرخت بقدر قوة الم الضربات : وكيف اعلم وانا لست حزبيا؟ خمسة اشخاص اخذوا يضربونني في وقت فلم يبقى في سوى شعور واحد وهو انني لم اعد اتحمل نبضات قلبي في ساقي اللتان كادتا تنفجران! انتشرت غيوم سود فوق رأسي وهيمن طنين رهيب على اذني ، دارت الدنيا كلها ولم اعد اعرف الاعلى من الاسفل ثم انقطع كل شيء وفقدت الوعي.

مرة اخرى وجدت نفسي مبللا بماء بارد انعشني،ولكن هذه المرة كنت ملقى فوق ارض كونكريتية في غرفة صغيرة خالية من كل شيء الا من كرسي عال لم اعرف لم يوجد هنا ، كان هناك محقق واحد يقف فوق رأسي وبيدة مسدس ، وقال لي مهددا : اذا لم تعترف فسوف افرغ المسدس برأسك! قلت له سوف اشكرك اذا افرغته برأسي لانك ستنقذني من الام لاتطاق . اخفى مسدسه وقهقه  بصوت عال وهو يقول : سوف لن اقتلك لان حفلات اخرى تنتظرك بعد ان تشفى قدميك فنحن نعرف انك ستعترف بعد فترة ولهذا سنحافظ على حياتك لانك كنز ثمين لدينا. ركلني بقدمه وخرج . ادرت رأسي في الغرفة نصف المظلمة ورأيت الضوء في سقفها معلقا بسلك يكاد ان ينقطع ، وكانت الجدران ملطخة باوساخ وربما هي دم متيبس ، كنت اشعر بانني احتاج للنوم وكانت تلك الرغبة لا تقهر ،كنت ما ان اغفو حتى توقظني نبضات قلبي التي تدق كساعة مرتفعة الصوت في قدمي .

في تلك اللحظة نظرت الى قدمي فرأيت صورة مرعبة: متورمتان بطريقة خلت انهما بقايا خروف منحور! كانت الدماء قد تيبست فوقهما وكانت غالبية الاظافر متدلية بعد ان تعرضت للضرب بقوة فخلعت !تذكرت كيف ان جسدي كان مع كل ضربة ينتفض بقوة هائلة لم اكن اتصور انني امتلكها! كان باب الغرفة حديديا صدئا، وفجاة غفوت ولكن لم تمض الا فترة قصيرة حتى فتح الباب ة ودخل نفس المحقق الذي وجه مسدسه لي ومعه شخص اخر يرتدي بيجاما وهو ينقل عينية بقلق واضح بيني وبين من معه ، فعرفت انه معتقل ايضا ، قال له افحصه وقل لي ماذا تحتاج لمعالجته،قال لي ذلك الشخص انه طبيب وعليه ان يفحصني نظر الى ساقي وظهرت على وجهه قسمات التعجب والخوف، وبدون تأخير قال للمحقق:انه يحتاج لعلاج فوري والا سيصاب بالغنغرينا ، قال له المحقق :وماذا تحتاج ؟رد الطبيب : انه يحتاج الى ادوية لابد ان اكتبها في ورقة،خرجا معا وسمعت صرير الباب وهو يغلق ، عدت للنوم المتقطع والذي تخترقه كوابيس عجيبة لم احلم بمثلها قذفت علي مشاهد كالجحيم الممتد في كل مكان! ايقظتني كوابيس الموت الخانق ، كنت لا استطيع الوقوف لان باطن قدمي ممزقان تماما واظافري تتدلى منهما والدم تيبس فوق قدمي، عرفت لم كانت كل الضربات على باطن القدمين فمن يحقق معي يريد ان ابقى حيا كي اعترف.

بعد زمن قدرت انه ساعة عاد نفس المحقق ومعه الطبيب وكان معهما جنديا يحمل طشتا ( اناء معدني كبير جدا ) واكياس قال الطبيب للجندي ضع الطشت هنا واجلب لنا ماء دافئا ، افرغ الطبيب سائلا لونه بنفسجي في الطشت وعندما عاد الجندي بقنينة كبيرة فيها ماء دافئ دلقه في الطشت، وقال الطبيب لي والمحقق يراقب كل شيء : ضع قدميك هنا ، وضعتهما في الطشت فشعرت بدفء الماء يتسلل الى جسدي ويريحني لكنني شعرت برجفات متتالية قفزت من قدمي الى رأسي مجتاحة جسدي كله بسرعة جنونية! والطبيب يضع بيدية المحلول فوق قدمي ويغسلهما به.ثم وجه خطابة للمحقق قائلا : سيدي يجب ابقاء قدميه في هذا المحلول على الاقل عشر دقائق كي نمنع الغنغرينا .قال المحقق للجندي: ابق مع الطبيب هنا لمدة ربع ساعة وبعدها ارفع الطشت واغلق الباب، وغادر وبعد ربع ساعة قام الطبيب بلفهما بالشاش والقطن وقال لي: يجب ان تنام الان .

نمت فورا على الاقل خمس ساعات .في اليوم التالي جلبوا لي فراشا قديما منقوشة فيه اوساخ بالوان مختلفة ووضعوه على الارض وقال لي الجندي: نم فوقه وعاد واغلق الباب . بقيت هكذا خمسة ايام وكانت المشكلة الاكبر هي انني لا استطيع المشي بسهولة وكان الذهاب الى الحمام وهو حمام لايصلح للبشر عملا مؤلما جدا يحيي الالم كما اثناء حفلة التعذيب!

تحسنت جروحي وعدت استطيع الوقوف والمشي قليلا في الغرفة وكنت وحدي فيها ، ولم اكن اعرف هل يوجد احد في الغرف المجاورة ام لا لان الصمت كان هو السيد بلا منازع وجعل المكان قبر كبير، كانوا يضعون الطعام من تحت الباب مرتين  في اليوم وهو رز ومرق بلا لحم ، ادركت انني فقدت الكثير من وزني .

لم تكد جروحي تلتئم نتيجة توقف التعذيب حتى عادت دورته تلفني فقد استدعيت فورا في ليلة سوداء ووجدت المحققين انفسهم وعيونهم تتوقد غضبا وفورا شتمني احدهم وقال : ادعيت انك لاتعرف مكان المطبعة والان تبين لنا من الاعتراف الجديد انك تعرف مكانها !ضربني بلكمة في وجهي فترنحت وكدت اسقط ارضا الا انني تماسكت، وبقيت صامتا لارى ماذا يحدث ، قال لي كبيرهم كبسنا ( اي وجدنا او عثرنا ) المطبعة التي انكرت انك تعرف مكانها،وصاحبك اعترف بانك تعرف مكانها، صرخ: احضروه ! ادخل الرفيق (….) وساقاه متورمتان ولا يستطيع المشي الابالتوكأ على الجندي المرافق له ،لم يتكلم ، كانت نظراته لي تحكي قصة عذاب لا يحتمل! اخرجوه وبقيت وحدي معهم قال لي كبيرهم لم انكرت معرفتك بمكان المطبعة ؟ كان ردي بصوت ثابت بطريقة ادهشتني:انا قلت لكم حرفيا انني لا اعرف مكانها وهذا صحيح ، رد : لا تتلاعب معي بالالفاظ كنا نطلب منك المطبعة سواء تعرف مكانها او تعرف من يعرف مكانها وثبت لنا انك كنت تعرف من يعرف مكانها ولم تخبرنا به. صمت ولم ارد ، قال خذوه الى الحفلة .

ادخلت نفس غرفة الكرسي المرتفع التي كنت فيها ،وفي اعلى الكرسي تعلقت حنفية تتدلى منها صوندا ماء ،وقال لي المحقق: سنريك الان لونا من الحفلات لم تعرفه وهو تعذيبك بالماء، وكانت ابتسامة لزجة تتدحرج من فمه ، دمدمت في دخيلتي:التعذيب بالماء اهون من تمزيق القدمين،وضعوني فوق الكرسي وشدوا يدي بمقبضيه وبعد ان حلقوا شعر رأسي ربطوا رأسي به كي يبقى ثابتا، وفتح الصنبور قليلا لتسقط قطرة منه فوق رأسي ، وكانت لحظة لذيذة حقا فالماء كان باردا وانعشني ، وقال المحقق سنرى هل تصمد ايضا هذه المرة ام تعترف بتنظيمك ؟ واصلت الصمت لان الكلام لايجدي ، وتركني وقال ساعود بعد ربع ساعة .

خرج وتركني وحدي والنقاط يتواتر سقوطها بانتظام محدد بدقة، كانت القطرة تسقط واعد للثلاثة ثم تسقط قطرة اخرى ، وفي البداية كنت مرتاحا ثم تحول الارتياح الى انزعاج ولكنه اخذ يتحول بسرعة الى الم ، فكل قطرة تسقط فوق رأسي صارت في البداية مثل القرع على قدر الطعام ثم تحول الصوت تدريجيا واصبح قرع طبل ومع كل دقة اشعر بانها انفجار صاخب والطبل هو رأسي! اصبحت مع كل قطرة ابحث عن مهرب ولكن الى اين وكيف؟ كان رأسي طبلا يدق ،يفجر الاما في اذني واشعر ان عيني تكادان تخرجان من محجريهما! وكان راسي يرتعش متحركا ولو قليلا جدا يمينا ويسارا بلا ارادة مني، كانت كل قطرة تبدو رصاصة مقترنة بصوت انفجار هائل يفجر جمجمتي بلا رحمة،كنت الوب ، احاول الدوران في الكرسي ولكن هيهات ! كنت ابحث عن هنيهة راحة ولكنها مستحيلة فالماء الذي يحيي اصبح يميتني ، كان رأسي مثبتا بحزام شديد الضبط كي لا احركه وتسقط القطرة في منتصف جمجمتي، وكانت حفلة قرع طبل والطبل هو جمجمتي وكان هناك من يرقص حولي ولم اكن اعلم هل هي اشباح ام انها تخيلات رأسي الذي فقد القدرة على التمييز، وعندما وصل قرع الطبل ذروته وتيقنت اني ساموت حتما فقدت الوعي !

بعد قليل اوقظت برشقات ماء دون التقطير ، فتحت عيني ونظرت حولي فوجد انني انزلت من الكرسي ومددت ارضا ، وكان المحققون يحيطون بي من جديد، سمعت احدهم يقول بصوت اجش: هل مازالت مصرا على عدم الاعتراف؟ تمتمت بصعوبة : وعلى ماذا اعترف؟ شعرت بشيء ثقيل يهوي فوق راسي  وقبل ان اعرف ماهو فقدت الوعي مرة اخرى .في اليوم التالي تكررت الحفلة وعادت قطرات الماء تميتني  بتساقطها فوق جمجمتي وفقدت الوعي. بعد يوم اخر قال كبير المحققين اتركوه يتعفن في الانفرادي مادام يرفض الاعتراف ووجه كلامه لي وهو يبتسم متشفيا من منظري الغريب : لعلمك لقد حصلنا على الاعترافات المطلوبة من غيرك لذلك ابق وحدك حتى تتعفن.

ومضات الذاكرة : اختبار الروح 13

 من مقالات الكاتب - عراق العروبة

Short Link

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.