يسرى سعيد ثابت قمر موصلي سطع في بغداد
يسرى سعيد ثابت قمر موصلي سطع في بغداد
تخيلوا كم هي أصيلة وشجاعة، تلك الفتاة العراقية، موصلية المولد، بغدادية النشأة والوعي، تقف رافعة الرأس، وعالية الهمّة، في محكمة تحولت جلساتها إلى مسرح للهتافات السوقية، والقصائد المحرضة على الاعدامات الدموية، من دون أن تضعف، أو تنكسر روحها القومية، وظلت تواجه الظلم والقهر، بصبر وصمود، سُجلا علامةً مضيئةً، في تأريخها المجيد.
يسرى سعيد ثابت، التي رحلت، قبل أيام، في الجزائر، أرض الشهداء، وموطن رفيقتها في النضال ضد الاستعمار، جميلة بوحيرد، عندما نستذكر وقفتها، ونستعيد صورتها، وهي أمام العقيد فاضل المهداوي، والمقدم ماجد محمد أمين، وكانا في ذلك الزمان، بندقيتان تُطلقان رصاصاً من الكلام الموجع، والسباب غير المسوغ، لا بد ونشعر بالفخر، لأن تلك الفتاة القومية، والطالبة الجامعية، ضربت مثلاً في الجلد، في مجابهة العسف والقمع، وهي من بيت عز، وسليلة أسرة لها باع مشهود في العمل والكفاح، ضد الاحتلال الأجنبي، والغزو الصهيوني، فوالدها سعيد ثابت، أحد فرسان عراقية الموصل، وأبرز حماة عروبتها، في عشرينيات القرن الماضي، وهو نفسه الذي شكل لجنة شعبية في الاربعينيات، سماها لجنة الإنقاذ الفلسطينية ضد العصابات الصهيونية، وأمها نبيهة، شقيقة المجاهد أحمد مريود، الذي اغتاله الاحتلال الفرنسي في القطر السوري، لذلك فإنها رضعت المجد، وصانت العهد، ويتذكرها الجيل الذي سبقنا، وهي تشارك في تظاهرات الاعظمية، في العام 1956، وتحيي مصر، وجمال عبدالناصر، وتلعن العدوان الثلاثي الغادر، وهي صبية لم تُكمل العشرين من عمرها.
وانتبهوا إلى عنفوان يسرى، وهي تُحاكم، وإلى جوارها في قفص الاتهام، ثلاثة من عائلتها، شقيقها إياد سعيد ثابت، وخطيبها حميد مرعي، وابن شقيقتها زهير، وتأملوا المشهد في ذلك العام الملتهب 1959، والحبال تتلوى في الفضاء العراقي، تبحث عن رقاب لكسرها، وأصوات تملأ الاجواء، تدعو إلى إعدام الخصوم السياسيين، وهذه الفتاة محشورة وسط هذا الهيجان المرعب، بلا ذنب اقترفته، ولا جُرم ارتكبته، وكان القصد غبياً ومتخلفاً، استهدف إذلالها، وابتزاز شقيقها وخطيبها وابن شقيقتها، برغم أن من كانوا وراء ذلك القصد السخيف، في رسمه وتخطيطه، زعموا أنهم ديمقراطيون، ينادون بوطن حر وشعب سعيد، ولكن التي آمنت بالعروبة، هوية وقدراً، ومنهجاً ونضالاً، ألقمتهم حجراً على أفواههم، وأخرست ألسنتهم، وظل البهاء يشع من وجهها، والعزيمة تطفح على محياها، ما أروعها وأجملها، وقد صارت لؤلؤة التيار القومي، وحظيت باحترام الملايين من العراقيين والعرب وتقديرهم، وتمنى كثيرون أن يُرزقوا ببنات، حتى يُطلقوا عليهن اسم يسرى.
ولأنها واثقة من نفسها، وصادقة مع المباديء القومية، التي آمنت بها، فلم تلتفت إلى التهريج، الذي عاكسها، ولم تُخفها الاتهامات الباطلة، التي وجهت إليها، واضطرت السلطة إلى الإفراج عنها، وعادت إلى منزلها في الأعظمية، وقد تحول إلى مزار، وصاحب حظ من سعد بإلقاء السلام عليها، أو التحدث معها، ورجعت إلى كليتها (التجارة والاقتصاد) تواصل دراستها، وتعوض ما فاتها، من محاضرات ودروس، وهي تمشي على عكازين، يُعينان قدميها، اللذين ظلا يئنان من سياط المحققين والجلادين، وقد لقوا مصارعهم، بعد حين، بين مقتول ومعدوم، وأحدهم أفلت من العقاب، الذي كان ينتظره، وهرب إلى ألمانيا الشرقية، وهناك دهسته سيارة شيوعية، وأزهقت روحه.
يسرى الجميلة النقية، لم تستغل سمعتها النضالية، ولم توظف مواقفها البطولية، في طلب منصب أو وظيفة، وكانا طوع أمرها، ولكنها وهي ابنة جاه وخير، ومروءة ومسيرة وتاريخ، كانت أرفع وأسمى، وظلت تعتز بعروبتها، ووفية لبلدها، وملتزمة بقضايا أمتها، بلا صخب، يرحمها الله، تبقى حية في ذاكرة محبيها، والمعجبين بسيرتها وما أكثرهم.
Source : https://iraqaloroba.com/?p=4757