ثوابتنا ومتغيراتنا 1
ثوابتنا ومتغيراتنا 1
تلقيت عدة رسائل من رفاق عرب من المشرق العربي بعضهم يطرح تساؤلات وافكارا حول مستقبل الفكر العربي، والبعض الاخر من المغرب العربي يستفسر مني فيها عن سبب توقفي عن كتابة الدراسات العقائدية والتي كنت اكتبها منذ سبعينات القرن الماضي ،خصوصا في السنوات الاولى بعد غزو العراق ،واشار احد الرفاق الى دراستي القديمة (ينابيع البعث) وقال انهم استخدموها للتثقيف الحزبي وينتظرون مني المزيد من امثالها في هذه المرحلة البالغة الاهمية التي تشهد محاولات مخططة متعددة الاطراف لتدمير الفكر القومي، واخطر اشكال تلك المحاولات التمسك به شكليا ولكن بعد افراغه من محتواه الاشتراكي والوحدوي، وهذا ما تفعله عناصر وكتل تنتمي للفكر القومي لكنها اضاعت البوصلة، رغم ان البوصلة هي التي تحدد الصواب والخطأ، واسجل، ونحن نقاوم بضراوة لاحدود لها اكبر محاولات تفتيت هويتنا القومية الاشتراكية وبأسمها، ملاحظات اساسية تصلح كبوصلة تضيء طريق النضال :
1-من بين اخطر اسلحة القوى المعادية للامة العربية في الغرب كأمريكا والصهيونية وفي المنطقة كالنزعات القومية الفارسية وغيرها، سلاح يقوم على التشكيك بالهوية القومية العربية ومحاولة احياء البدائل العرقية والاثنية السابقة للهوية القومية، فمثلا نلاحظ الان زيادة تجنب الاعلام العربي، متبعا الاعلام الغربي والصهيوني،استخدام مصطلح المغرب العربي والذي ساد طوال قرون وتبني مصطلح (شمال افريقيا) وهو ما تتعمده القوى الغربية لان هذا المصطلح يعبر عن الجغرافيا ويهمل الهوية القومية وهو بيت القصيد فالجغرافية لاتعكس التكوين السكاني، وهنا يكمن الانكار الضمني للهوية العربية، اما التيارات الاسلاموية فهي تستخدم مصطلح (المغرب الاسلامي) وهو مصطلح يضع تناقضا مصطنعا بين الهوية العربية والهوية الاسلامية للمغرب العربي،وفي الحالتين فان الهدف هو طمس التسمية الصحيحة وهي المغرب العربي. وكذلك تستمر محاولات طمس مصطلح (الوطن العربي) والذي يعبر عن هوية امة واحدة والاستعاضة عنه بمصطلح (العالم العربي) وهو ايضا مصطلح جغرافي يخفي الهوية القومية فكلمة العالم يمكن ان توجد فيه عدة امم وليس امة واحدة، وهناك امثلة اخرى كثيرة. وهذه المحاولات ليست مجرد تسميات شكلية بل هي اطار عام للردة عن الهوية وخطوة اساسية منها فالتسمية عندما تسود بالتكرار المبرمج تصنع حالة اجتماعية ونفسية واحيانا فكرية وكلما طغت التسميات الجغرافية والدينية تتراجع الهوية القومية وتضمر فكيف عندما تقترن بتنفيذ خطط محو مبرمج للهوية القومية العربية وهو ما نعاني منه منذ عقود؟
والخطط الاخرى وكما نراها الان في الترويج لوجود (هويات اصلية) في الوطن العربي سابقة على الهوية العربية مثل الفرعونية والامازيغية والاشورية والكلدانية والفينيقية ..الخ وهذا تاريخيا غير صحيح لان الهوية العربية تشمل كل هذه الاقوام التي تفرعت منها. ومن الاساليب الاخرى اتهام العروبة بانها مفهوم عنصري لتنفير العالم من العرب بينما الواقع السكاني العربي يدحض هذا الاتهام فالعروبة هي انتماء اختياري وليست مفهوما عرقيا والدليل الحاسم هو ان العربي ابيض واسمر واسود البشره اضافة لاختلاف الوان العيون، فالعروبة وعاء ثقافي حضاري متسع صهر كل الثقافات والاقوام السابقة له وبرزت بصفتها نتاجا لها ولكنها ارقى واوسع واكثر استجابة لروح العصر. وتلك الظاهرة تجعل النضال الفكري اكثر اهمية من حمل البندقية للدفاع عن الامة لان حامل البندقية عندما تكون هويته الفكرية مهزوزة فانه يفقد القدرة على الصمود وهو ما نلاحظه بصورة متكررة في الجندي الامريكي والجندي الصهيوني اللذان يهزمان بسرعة عندما يواجهان مقاتلا يحمل هوية متبلورة تاريخيا امامه، فالمعنويات تنبع من العقيدة او القناعة الفكرية وبدونها يتحول الجنود الى بيادق لا عقل ولا مشاعر انتماء متجذرة لديها والاخطر انهم يختارون انانية الذات عندما يتعرضون للخطر فيهزمون فورا .
2-ان التطور احد اهم قوانين الحياة فبدونه تندثر الامم والثقافات والابداع، ولكن التطور لايعني التماهي مع كل التغيرات التي تقع لان الانسياق الاعمى معها قشرة الموز زلقة تكسر الساق اذا لم ننتبه لما يخبأ تحت غطاءها الملون،واذكر ان رفيقا من قطر عربي شاب جديد على الحزب اخذ يروج لفكرة (ان عصر الايديولوجيات انتهى وحل محله عصر اللا ايديولوجيات وضرورة عدم التقيد باي فكرة مسبقة بما في ذلك ما جاء به الرفيق القائد المؤسس احمد ميشيل عفلق ،ويجب ترك الامر لقرار الانسان كي يختار مفاهيمه)! وهذا النمط من الترويج واسع النطاق في الغرب وربما يصلح لمجتمعات ايلة للتداعي الانساني بعد ان استنفدت قواها الاخلاقية ولم يعد لديها الا قواعد سلوك تحكمها القوانين وليس القيم العليا، فهذه الشعوب تفككت قيميا وهو ما جعل هويتها تذوب،لذلك فانها يمكن ان تفكر بطريقة الفرد المنعزل الذي يرفض ويقبل المفاهيم طبقا لمستوى وعيه ومصالحه وهو موقف يضع الانسان في خانة الارقام او الروبوت.
ما لا ينتبه اليه مروجوا تلك المفاهيم العدمية هو اننا لسنا الغرب الذي يواجه ظاهرتي الغروب البايولوجي والايديولوجي معا ويسير بسرعة نحو الفناء التلقائي خلال خمسة عقود اذا لم يجد وسيلة لتنشيط الولادات نتيجة التراجع الخطير في نسبة الولادات السكانية تحت نسبة 2 % وهو ما سيجعل شعوب اوربا الغربية وبعض الشرقية يتقلص جدا، بل نحن منبع التطرف في الولادات ، وهذا الفرق النوعي بيننا وبين الغرب هو الذي يحدد مناهج العمل والافكار والستراتيجيات، فنحن بحاجة للترشيد في كل شي، والغرب حققه،ومن يمر بهذه المرحلة فانه يعيش فترة الخصوبة في كل شيء وليس في الولادات فقط،ولذلك فانه بحاجة جوهرية للترشيد وما يضمنه فقط هو الاطار الفكري او العقائدي الواضح والذي يحدد المسالك ويحفظ للخصب الانساني جنسيا وفكريا قدرته على النمو الصحيح ويجنبه الوقوع في مطبات صناعية او طبيعية تحول الخصب البشري الى طاقة تخريب، وعند هذه النقطة نرى الغرب والصهيونية تعملان لابقاءنا اسرى خطط تحويل خصبنا الى قوة جبارة لتهديمنا نحن بأيدينا بدل تهديم خطط الغرب والصهيونية وما يجري منذ غزو العراق عبارة عن تقدم كتائب معدة سلفا في مراكز البحوث النفسية والطبية والعلمية عموما من اجل دفعنا الى خيار جعل خصبنا البشري عامل تدمير لنا.
فالاسلاميون المتطرفون عنفيا سواء اسستهم اسرائيل الشرقية او اسرائيل الغربية وامريكا وبريطانيا ، هي كتائب وميليشيات مدربة على حمل احقاد ايديولوجية تقتل الجبال، وذلك ما رأيناه مجسدا في العراق وسوريا واليمن ولبنان وليبيا وقبلها في فلسطين والاحواز ، وهذه الحقيقة تجعلنا اكثر من لديه يقين ثابت باننا نتعرض لعمل معاد مخطط بتفاصيله، ولذلك فان الرد الناجح لايمكن الوصول اليه الا بعمل مخطط ولا يمكن ذلك الا عبر منظومة فكرية واضحة وثابته ومقنعة برشدها ونضجها، وليس افضل من الهوية فعندما يتعرض الانسان للافناء فانه يتخلى عن كل الافكار المسبقة ولا يبقي الا وسيلة النجاة، وهنا يجد انه امام خيار واحد وهو الهوية الجمعية للعرب الكفيلة بدحر المخططات كلها وانقاذ الامة، فالعروبة هي قلعتنا الاخيرة التي تضمن لنا البقاء ثم اعادة ترتيب صفوفنا وتحديد تسلس اهدافنا، واخيرا كيفية الرد الهجومي والخروج من القلعة الى الاعداء لمقاتلتهم في عقر دورهم، فلا نجاة لنا الا بهذه الطريقة ، ولا نصر لنا الا بوجود بوصلة هادية ومنيرة لنا .
3-وفي مجتمع استهلاكي مسيطر عليه عبر الانترنيت ووسائل التواصل الاعلامية- وليس الاجتماعية – تنحدر الهوية القومية وتحل محلها الهوية الفردانية –وغيرها من الهويات الفرعية- المعبرة عن واقع ضياع الانسان واستعباده المخفي عمدا بفردانية مصطنعة تؤجج الانا لكنها الانا المحتواة اصلا ، وهو فخ لما بقي للانسان في الغرب من ومضات وعي اجتماعي. واللعبة الغربية والصهيونية التي تبلورت ملامحها واهدافها الان هي جرنا رغما عنا الى ممارسات غريبة عنا لانها تخص مجتمعات تموت بايولوجيا وايدلوجيا بعد ان فقدت الخصب البايولوجي والخصب الايديولوجي معا بينما نحن وكما وضحنا في ذروة خصبنا العام ومنه الخصب الفكري ولهذا يجب على العربي الغطس في داخله للعثور على خلاصه وهو اسير طاقات متجددة لانه قنبلة يمكن ان تتفجر بوجه من يريد السيطرة المباشرة عليها فلا يبقى الا افقاده توازنه اولا وتغيير قواعد تفكيره ثانيا وزرع افكار اخرى غريبة عنه ثالثا وهذا ما يقوم به عصر المعلوماتية بالدرجة الاولى.
وعندما يفقد الانسان توازنه يكون لدينا مخلوق غريب جدا عن كل البشر الاخرين وتظهر فجوة اخرى بين العالمين الاول والثالث وهي فجوة تتسع كلما زادت قوة الانترنيت ووسائل التواصل الاخرى بين من يتفكك انسانيا في الغرب ومن معه وبين من مازال قويا ويمتلك طاقات خصب فائضة يجب تسريبها في قنوات تدميرية او بالاستيلاء عليها من قبل الغرب واعادة توظيفها لخدمته في تحقيق هدفين اساسيين: الهدف الاول حرمان العرب من طاقاتهم الشبابية بالاغتراب والارهاب والضياع الفكري والبطالة واعادة الامية والمخدرات والشذوذ الجنسي …الخ، والهدف الثاني تنشيط خصوبة الغرب المتداعية بزرق جينات خصبة بجسده ، وتعظيم ظاهرة سرقة العقول من العالم الثالث باغراءات متعددة منها تدمير اوطانهم ، وهكذا نرى احد اهم الاهداف يقف وراء كوارث الحروب التي فرضت علينا من قبل الغرب والصهيونية وهو التهجير القسري للعرب ،والذي ضمن هجرة اكثر من 15 مليون عربي فقط من العراق وسوريا منذ غزو العراق الى الغرب وتلك الاعداد وضمن التخطيط الغربي عبارة ان تنشيط بايولوجي للغرب المحتضر بايولوجيا، وقوى عمل اؤهلت في اقطارها!
4- نحن لسنا شعبا شاخ بل نحن شعب عربي شاب من موريتانيا الى اليمن يتجدد بايولوجيا وبقوة الاصول الباقية رغم انها تنتمي لما قبل الامة وهي القبائل والتقاليد والديانات التوحيدية والعلاقات الاسرية القوية…الخ، فلئن كانت فيها جوانب سلبية الا ان فيها ايضا قوى جبارة لاتلين هي اللحمة الدينية والعشائرية والاسرية والمناطقية وغيرها،وهي غائبة تقريبا في الغرب،من هذه المنابع القديمة تتدفق مصادر خصبنا ونمائنا واذا اضيفت للطاقات العظيمة لعصرنا فسوف نصنع المعجزات التي لايتخيل الغرب انه يستطيع القيام بها بنفس العدد والزمن وهو ما حصل في العراق اثناء نهضته العظمى في العهد الوطني علميا وتكنولوجيا وكان ذلك احد اهم اسباب غزو ثم التدمير البطئ للعراق من اجل اعادته لمرحلة البدائية المشوهة. فنحن نواجه نتائج احتضار مصطنع هو الحروب وافتعال الازمات ، لذلك فالافكار الغربية تصلح له وليس لنا ومنها النزعات الفردية الجامحة ومن يتعرض لتأثيرات المعلوماتية يتحول الى مخلوق هجين فلا هو مثل الغرب ولا هو مثل اصوله.
التخلي عن الايديولوجيات ومنح الفرد المنعزل المستعبد بالانترنيت وغيره صلاحية تقرير ما هو صحيح وما هو خاطئ وصفة قاتلة تكمل محونا من الوجود الانساني حتى لو بقينا كبشر لان من يفقد هويته يتحول الى رقم فقط لا فرق لديه بين وطن واخر ولا بين عقيدة واخرى.وتلك بداية نهاية الوطن وهي تؤكد بديهية لايمكن القفز من فوقها وهي ان الرابطة القومية العربية كانت قوية قبل تدشين خطة اضعافها وخلفها كانت تتقاطر الهويات السابقة للوطنية كالعشائرية والمناطقية والطائفية وحتى العائلية كمغذيات حيوية لها ،وبحكم تلك العلاقات التقليدية فان الرابطة بين البشر لاتسمح ببروز فردانية كتلك التي برزت في الغرب وان برزت فهي مشوهة ومرضية وهو ما سجلناه على الرفيق العربي الذي دعا لمحو الفكر القومي والديني والعمل وفقا لاجتهادات ووعي الفرد. وعندما تروج مثل هذه الاراء في وطننا العربي وتسخر لها قدرات اعلامية ونفسية هائلة فالهدف هو الخلط بين الثوابت والمتغيرات فيعد الثوابت متغيرات اي انه ليس ثمة ثوابت في حياتنا وتلك نقطة بداية الانهيار لان الثوابت هي قلاع البقاء في عالم فقد توازنه وهويته.
يتبع.
ثوابتنا ومتغيراتنا 1
المصدر : https://iraqaloroba.com/?p=11000