خطاب أبو مازن المختلف
خطاب أبو مازن المختلف
في الخطاب الأخير للرئيس الفلسطيني أبو مازن من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 25/9/2021م ورد فيه بصمات صوتية عالية و انقلابية ونبرة جديدة لم نعهدها في كل خطاباته السابقة , حيث تضمن خطابه عناصر تهديد ورسائل قوية المعاني والدلالات تشي بأن الرجل بات يقف على مفترق طرق و منعطف حاد يفصل.. بين نهجه السياسي والعقائدي السابق الذي اّمن به طيلة حياته ممثلاً بطريقة إنتزاع بعضاً من حقوقنا الوطنية والقومية في فلسطين التاريخية عبر الطرق والوسائل السلمية من خلال المفاوضات والحوار بعيداً عن العنف الثوري والكفاح المسلح الذي لم يؤمن به شخصياً نظراً لإعتقاده بأن موازين القوى الدولية تميل في مجملها لصالح المشروع الصهيوني الاستعماري في فلسطين.. وبين الواقع المعاش الذي يؤكد أن الكيان الصهيوني غير راغب بالسلام أبداً والذي فرض حقائق على الأرض تطيح بحل الدولتين وتؤكد مضيه في العدوان والقتل والإبادة والتطهير وإنكار حق تقرير المصير والعودة للفلسطينيين.
وبالعودة للماضي القريب كأساس للبحث في خلفيات الخطاب الأخير لابد من استعراض التحولات السياسية والاقتصادية وجملة الضغوط الهائلة على منظمة التحرير الفلسطينية ووجودها المسلح في الساحة اللبنانية في أعقاب الحرب الصهيونية على القطر اللبناني عام 1982م والتي أفضت الى إضعاف الوجود الفلسطيني المقاوم في لبنان وتشريد معظم مقاتليها خارج حدود لبنان صوب تونس والعراق والجزائر وليبيا واليمن.. وتبعات هذا الخروج الذي رعاه المندوب الأمريكي فيليب حبيب من وقوع مجازر بشعة بحق الأبرياء في مخيمات اللجوء الفلسطيني بضواحي بيروت على أيدي قوات الإحتلال الفاشية وعملائها الصغار من الطائفيين المحسوبين جزافاً على لبنان , إضافة للعدوان الإمبريالي الصهيوني الثلاثيني على الحاضنة العربية للثورة الفلسطينية ممثلة بالعراق الشقيق وذلك في العام 1991م بهدف تحييده وإخراجه من معادلة الصراع مع الكيان الصهيوني وتالياً الاستفراد بقوى الثورة الفلسطينية وفصائل المقاومة الوطنية والقومية التي تم تصفية معظم قياداتها عبر حملة اغتيالات مبرمجة وواسعة النطاق أطاحت بمعظم الرموز الوطنية لدى الشعب الفلسطيني وخصوصاً القيادات المتمسكة بالميثاق الوطني الفلسطيني و بخيار الكفاح المسلح كوسيلة ناجعة ووحيدة في كبح جماح الإحتلال على طريق كنسه وتطهير كامل الأراضي العربية الفلسطينية من دنسه …. ويتضح وبالدليل القاطع من خلال عدوانهم وحملة التصفيات تلك رغبتهم في خلق عوامل مشجعة تسهم في بروز الليبراليين أصحاب نظرية المفاوضات السلمية كوسيلة وحيدة في إنتزاع الحقوق الفلسطينية.. وكان الرئيس أبو مازن أبرز حاملي هذه الرؤيا والنظرية مما جعله أكبر مهندسي اتفاق أوسلو المشؤوم وكل الاتفاقيات المبرمة مع الجانب الصهيوني ظناً منه بانتصار خيار التسوية السلمية على كل الخيارات التي إستخدمها شعبنا في مقارعة الاحتلال وسياساته الإجرامية والتي شكلت نموذجاً فريدا في الفداء والتضحية يحتذي بها أحرار العالم.
ومع خوض الرئيس أبو مازن تجربة الخيار السلمي والمفاوضات الماراثونية طيلة ثلاثون عاماً من المفاوضات العبثية ..أي بعد العدوان الثلاثيني على العراق الشقيق مباشرة عام 1991م .. إنطلاقاً من مؤتمر مدريد ومروراً بأوسلو وكل الإتفاقات التالية.. والتي إنتهت جميعاً بالخديعة الصهيونية التي ماطلت طيلة الوقت مستغلة مظلة السلام وطاولة المفاوضات في فرض حقائق استيطانية و تهويدية على الأرض تطيح بأسس العملية السلمية و أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية , بل و تغولت في سياسة مصادرة الأراضي والقمع والتطهير العرقي والحصار والتجويع والحبس وسياسة الإعدام اليومي على حواجزها العسكرية والقتل على الهوية بشكل يفضح وجه الإحتلال المجرم وعدم جنوحه أبداً للسلام الحقيقي والعادل والاعتراف بحق العودة وتقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني .
وفي ضوء المستجدات السياسية الأخيرة وتحديداً بعد سقوط إدارة ترامب وصعود الرئيس الامريكي الجديد ( جوبايدن) الذي نأى بنفسه عن تلك السياسة الرعناء والهوجاء لسلفه , إضافة لبؤس الحالة الفلسطينية أمام صلف الاحتلال وتماديه في كافة سياساته العدوانية والإجرامية بحق شعبنا الذي فقد بدوره أيضاً الثقة بأداء قيادته السياسية وبقدرة المجتمع الدولي على لجم الاحتلال ووضع حد لممارساته التعسفية والقمعية وحروب الإبادة التي يشنها على المواطنين الأبرياء دون توقف , وكذلك استنفاذ الرئيس ابومازن كل ما في جعبته لصالح إنعاش ودفع ما يسميه قاطرة السلام التي فشلت كلها وتوقفت أمام صلف الاحتلال و تشدقه بنزعاته الإجرامية الوحشية وغرائزه الحيوانية المفترسة .. هذه العوامل مجتمعة شكلت أساساً منطقياً لخطاب ابو مازن الأخير أمام الجمعية العامة والمختلف عن سابقيه من الخطابات التي تميز فيها أبومازن عن سلفه الشهيد ابو عمار , حيث وللمرة الأولى يعرض أبو مازن المأساة الفلسطينية على حقيقتها أمام العالم وبكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة مستعرضاً كل جرائم الإحتلال منذ احتلال فلسطين عام 1948م ومنها جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي أودت بحياة مئات الاّلاف من الأبرياء , وجرائم التطهير العرقي الممنهجة التي أدت الى تشريد نصف الشعب الفلسطيني حيث يعيش الملايين مشردين خارج ديارهم ومساكنهم التي يملكونها وما زالوا يحتفظون بالأوراق الثبوتية لملكيتها وكذلك مفاتيح بيوتهم بإنتظار حق العودة المقدس الذي أكدته مجمل القرارات الدولية التي دعى الرئيس بشكل واضح لا لبس فيه ولا مواربة لتنفيذ كل القرارات بهذا الشأن , كما دعى الرئيس لإطلاق سراح كافة الأسرى وتبييض سجون الإحتلال من كافة أسرى الحرية كشرط أساسي للعودة لما يسمى مسيرة التسوية السلمية .. ليس هذا فحسب بل ذهب الرئيس لجهة التهديد بسحب الاعتراف بما يسمى إسرائيل.. والذهاب نحو خيارات سياسية أخرى كمطالبة المجتمع الدولي تنفيذ قرار التقسيم الدولي لفلسطين عام 1947م .. أو خيار الدولة الواحدة بحقوق سياسية متساوية بين جميع مواطنيها وخصوصاً بعد ظهور نتائج الإحصاء الأخير الذي فاجأ الدوائر الصهيونية ويشير الى مسألة التعادل الديمغرافي بين اليهود والعرب في فلسطين وهذه الأرقام لا تشمل السبعة ملايين لاجيء فلسطيني خارج حدود فلسطين التاريخية.. مما بات يهدد الوجود الصهيوني ومن خلال صناديق الإقتراع في حالة تطبيق خيار الدولة الواحدة من البحر الى النهر … وفي السياق أيضاً أمهل ابو مازن العالم ودولة الاحتلال عاماً واحداً لتحديد مصير عملية السلام والاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة على كامل الأراضي المحتلة عام 1967م وعاصمتها القدس الشرقية ملوحاً في ذات الوقت بتهديده الإنقلابي الذي لم نعهده فيه من قبل حين خاطب العالم من على منصة الأمم المتحدة قائلاً : لا تحشروا الشعب الفلسطيني فإن صبره بات ينفذ وأن لديه خيارات أخرى تعرفونها ونالكم منها نصيب في إشارة واضحة وبليغة بقدرة شعبنا على خوض الحرب الشعبية المسلحة طويلة الأمد التي من شأنها استنزاف قوى جيش الإحتلال الفاشي وإجباره على التقهقر والانهزام أمام الإرادة الحرة التي يمتلكها شعبنا العربي الفلسطيني.
خطاب أبو مازن المختلف
Source : https://iraqaloroba.com/?p=11080