مرحبا ايها الخلد النائم !
مرحبا ايها الخلد النائم !
وردتني رسالة من قارئ يطلب مني توضيح معنى عبارة (الاجتثاث الناعم) التي وردت قبل سنوات في اكثر من مقال لي، ووجدت فرصة لتوضيح معلومة مهمة في هذه المرحلة من تاريخ اجتثاث عروبة العراق وبقية الاقطار العربية وتقسيمها، بالاعتماد المباشر على مناجذ نائمة، واسم مناجذ هو جمع اسم خلد MOLE وهو حيوان يشبه الجرذ يقضي اغلب حياته في انفاق تحت الارض، وبسبب هذه الطريقة في العيش استخدم اسم الخلد في قاموس المخابرات العالمية للاشارة الى الجاسوس. وللتذكير بالفرق بين الجاسوس والجاسوس النائم نشير الى ان الاخير لايمارس الاعمال التقليدية للجاسوس العادي وهي جمع المعلومات وارسالها لمن جنده دوريا مواصلة التخفي التام وعدم ارسال او استقبال اي امر او معلومة حرصا على عدم كشفة ولكن في اللحظة الحاسمة يوقظ الخلد النائم بالطلب منه القيام بعمل ضخم او اكثر من عمل لتغيير المعادلات القائمة جذريا.
ومن بين الامثلة على الخلد النائم كيم فيليبي مدير قسم مكافحة التجسس في المخابرات البريطانية والذي قضى حياته يكافح المخابرات السوفيتية (KGB)، ولكن اكتشف فيما بعد انه كان جاسوسا لل(KGB)! وكذلك علماء امريكيين وبريطانيين كانوا صناع القنبلة الذرية الاولى ثبت انهم جواسيس سوفيت رغم انهم كانوا يتولون اكثر الواجبات خطورة وحساسية مثل اوبنهايمر وزوجته اللذان اعدما. وهناك مناجذ نائمة من نوع اخر وهي التي تعد للتصفيات الجسدية لعناصر مختارة وهؤلاء تغسل ادمغتهم تماما بطرق طبية معقدة فتراهم بشرا عاديين جدا بل مثاليين بلطفهم وحبهم ومسالمتهم لكنهم وحينما تصدر اليهم الاوامر بتصفية شخص ما بكلمات محددة هي كلمة السر توقظ فيهم ما زرع في ادمغتهم من اوامر مؤجلة يتحولون فجأة الى روبوتات مطيعة فتقدم على العمل المكلفة به مهما كان وحشيا، وفيلم (المرشح المنشوري) هو احد الامثلة وقبله في السبعينيات فيلم (الميكانيكي) لتوضيح هذ النوع من الجواسيس.
ولكن قبل هذا لابد من التذكير بواحد من اهم ضمانات سلامة الدول وهي التحوط المحسوب لاي احتمال ولو كانت قوته لاتتجاوز ال1%، لذلك فان اجهزة المخابرات تهتم كثيرا بالتحسب الدقيق من خلال رصد اي احتمال والتعامل معه على انه يجب التحوط له والاعداد لمنعه مهما كان مستبعدا.
من هنا فان تناول موضوع الخلد النائم في القوى الثورية ما هو الا للتنبيه لاهمية الحذر واليقظة خصوصا وان من يتعرض لمحاولات الاختراق المخابراتي ودس المناجذ في صفوفه هي القوى الفاعلة والمؤثرة جدا. وتدمير الاتحاد السوفيتي بدأ باختراق الحزب الشيوعي السوفيتي من امينه العام ميخائيل غورباتشوف وبه اخترقت المخابرات السوفيتية والحزب معا، ففقد الاتحاد السوفيتي أهم اسلحة حمايته واخذ يتفكك تدريجيا، فالضرورة تفرض اعتبار ان التنبيه واجب والتحسب اوجب.
ما هو الاجتثاث الناعم اذا؟ انه المكمل للاجتثاث الجسدي فهما وجهان لعملة واحدة يعملان معا او بالتتابع، فعندما لايكفي الاجتثاث الجسدي تكمل العملية بالاجتثاث الناعم اي محاولة اختراق القوى الثورية وتدميرها من داخلها بواسطة قادة فيها جندوا في مخابرات معادية، فمثلا الامن العامة في العهد الوطني اخترقت الحزب الشيوعي من قيادته، بعد ان مارس العداء للنظام الوطني، وسيطرت عليه فاخذت تصدر البيانات باسمه وتختار القادة له وكانت النتيجة هي تفكيكيه من داخله! وما تبنته المخابرات الامريكية ونفذته قوى الاحتلال الامريكي والايراني في العراق من عمليات تصفيات جسدية واسعة النطاق وصلت الى اغتيال اكثر من 180 الف بعثي من اجل اجتثاث البعث لانه بطبيعته حزب يحمل رسالة تتناقض جذريا مع الاهداف الامبريالية للغرب الاستعماري وللاسرائيليتين الغربية والشرقية، فهو المصد الفعال لموجات الاحتلال، وبسبب فشل الاغتيالات بدأت خطة الاجتثاث الناعم للبعث. لقد نجح حكم البعث ليس بتحصين الجهاز الحزبي فقط بل انه ايضا حصن اجهزة الدولة ضد اي اختراق مخابراتي قبل الغزو والحالات النادرة التي اكتشفت وعوقب من تورط فيها تؤكد النجاح التام للمخابرات العراقية في تحصين الحزب والاجهزة الحكومية والمواطنين عامة.
وهناك شكل اخر للعمل المخابراتي وهو الخلد النائم، وقصة الشخص الثاني في عهد (رابطة الشيوعيين اليوغسلاف) بقيادة تيتو تقدم صورة واضحة لمعنى الخلد النائم، فالشخص الثاني في الرابطة والحكم ايضا وكان يتمتع بسلطات اكثر من اي شخص اخر بعد الرئيس تيتو ثبت فيما بعد انه جند من قبل المخابرات الامريكية ولكن ليس من داخل يوغسلافيا، لانها كانت محصنة بقوة، بل استغلت فرص السماح له بالسفر الى الخارج لحضور مؤتمرات دولية واثناء سفره للخارج تمت عملية تجنيده واخبر بأن المطلوب منه ليس كتابة تقارير سرية دورية بل ممارسة الصمت التام وعدم تحقيق اي اتصال به والاكتفاء بتكليفه بعمل واحد لاتترتب عليه اي متابعة، وهو قيامه باتخاذ قرارات بتعيين اشخاص في مواقع معينة من الدولة وكان هو المسؤول عن تنسيب كبار المسؤولين فيها، بشرط ان يكلف غير المختص بعمل خارج اختصاصه، ومقابل تنفيذ هذا العمل توضع ملايين الدولارات في حسابة في بنك خارج يوغسلافيا. وهذه الخطة أدت الى خلل كبير في اداء الدولة نتيجة فوضى التعيينات وعدم وضع الشخص المناسب في الوظيفة المناسبة لاختصاصه.
وثمة نوع اخر من المناجذ النائمة وهو الجاسوس العقائدي والذي يتطوع لخدمة طرف اجنبي لاسباب تتعلق بقناعة ما والمثل هو اخر رئيس للاتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشوف والذي كان رئيسا للمخابرات السوفيتية ثم اصبح امينا عاما للحزب للحزب الشيوعي السوفيتي ورئيس الدولة، ومن اعلى موقعين اخذ ينفذ خطة تهديم الاتحاد السوفيتي من دون انقلاب دموي بل بقفاز حرير ناعم تحت غطاء البيروسترويكا (اعادة الهيكلة او الاصلاح) والغلاسنوست (الشفافية والانفتاح)، وما قام به غورباتشوف بعد ان وقع تحت تأثير مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا ورونالد ريجان رئيس امريكا ومستشاريهما هو التفكيك المنظم والهادئ للاتحاد السوفيتي باعادة تشكيله وما رافق ذلك من تغييرات عميقة في بنية الدولة والحزب، وهي كلها ادت لاضعاف المخابرات وقدرتها على حماية الاتحاد السوفيتي.
وهكذا بدأ الاتحاد السوفيتي يتفكك بطريقة ناعمة، بل ان محاولة قادة شيوعيين اخرين انقاذ الاتحاد السوفيتي باللجوء للعمل الانقلابي فشلت بعد ان تبين ان الحزب الشيوعي اخترق بصورة خطيرة ادت الى سيطرة امين سر الحزب الشيوعي في روسيا وهو بوريس يلتسين الذي قاد الردة عسكريا وقام بقصف البرلمان السوفيتي بالدبابات لاحباط الانقلاب الشيوعي ضد الردة التي اعد لها غورباتشوف! فتفكك الاتحاد السوفيتي تم بعد ان نجح غورباتشوف بتفكيك الحزب الشيوعي السوفيتي من موقعه كامين عام وتنصيب عناصر موالية له وغير عقائدية في المواقع الحزبية الاخطر مثل تولي يلتسين امانة سر الحزب في روسيا، وبذلك فان الاتحاد السوفيتي اصبح تحت قيادة غورباتشوف مخترقا من داخله بمخابراته وجيشه وحزبه فتهاوت حصانته وانهار بسهولة، ومن قاد الردة هم قادة الحزب الشيوعي السوفيتي ذاتهم والذين تعرضوا للتحلل العقائدي والسياسي والافساد المنظم. وهذا هو الاجتثاث الناعم في اوضح صوره وطرق تحقيقه.
ما الذي يترتب على ذلك؟ اول ما يترتب هو الضرورة الاجبارية للحذر لدرجة الهاجس من مؤشرات وجود خلد نائم او اكثر تم تجنيدهم داخل او خارج قطره كي ينفذ لاحقا خطة تفكيك حزبه او دولته بطريقة ناعمة بخلق الشغب الداخلي، واشغال الحزب عن واجباته وشل دوره النضالي بعدة اساليب رغم ان المرحلة توجب بشدة ممارسة دوره الطليعي في مواجهة التحديات المصيرية، وتكليف الاقل كفاءة والاوضح عجزا بمهام قيادية، والتهرب من حل المشاكل وتركها تتضخم وتزداد تخريبا، تذكروا الامن العامة في العهد الوطني وكيف شلت الحزب الشيوعي وفككته، وتذكروا اصلاح وشفافية غورباتشوف، وتذكروا ما قام به القيادي اليوغسلافي فهي أمثلة خطيرة للاجتثاث الناعم ولكيفية تدمير حزب او شله تماما في اخطر مراحل الصراعات مع ان المفروض هو ان يصعّد دوره ويزداد انخراطا في الصراع مع العدو ويتجنب اي شغب داخلي مهما كان! يلتسين لم يواجه وهو يقود الردة مقاومة فعالة نظرا لان التغيير السابق تم بصورة نظامية ومن اعلى الهرم وتحت غطاء مزيف هو (لمصلحة المنظمة) وبقرار اعلى مدير فيها! وفي هذه العملية نرى العقائديين المدافعين عن الهوية الاصلية والمبادئ يتعرضون للشيطنة والتجريد من المواقع المهمة واحيانا الفصل تحت ذرائع تافهة لتسهيل صعود نجم يلتسين (اخر) يغدر بالاتحاد السوفيتي (الاخر) من داخله وبأسم الاصلاح الشفافية!
الا يستحق ذلك الحذر الشديد وقبول افتراضات وجود خطر اختراق صفوف الوطنيين فنستعد لطرد (غورباتشوف) قبل ان يتمكن ويسيطر؟ الا يوجب ذلك التعرف على (كيم فيليبي) حتى لو ارتدي الجبة والعمامة، ثم كشفه قبل ان يواصل تخريبه من الداخل؟ الا تستحق حماية علومنا واسرارنا الاكثر اهمية كشف اوبنهايمر حتى لو اختار اسم (الشيخ طرطور) قبل ان يقدم للعدو اخطر اسرارنا فيقع الفأس بالرأس؟ الامة لن تسامح من يتخاذل او يتردد ولا من يساوم بل ستلعنهم وتحولهم الي ابو رغال العصر، فهل انت مستعد لتحميل عائلتك وذريتك عار ان تكون ابو رغال العصر؟ الشرفاء يجيبون كلا والف كلا.
Source : https://iraqaloroba.com/?p=6387