مع إسماعيل مظهر حول قصيدة لديك الجن
مع إسماعيل مظهر حول قصيدة لديك الجن
لا أدري أهو سيرة ذاتية حقيقية ما تضمنه كتاب (تباريح الشباب) لمؤلفه المفكر والعالم المصري إسماعيل مظهر ، والذي نشره عُقيبَ وفاته نجله الأديب جلال مظهر ، أم هو مجرد قصص وحكايات مختلقة كان للخيال والتصور أكثر من يد في صوغها ونسجها واتخاذها وعاءً لخطراته وانطباعاته عما حوله من ظواهر الوجود وأحوال الناس وما اصطلحوا عليه من عوائد ومألوفات وأخلاق وديانات ، إلى جانب كدحهم اليومي المتواصل لاستحصال متطلباتهم واحتياجاتهم ، متحملين في سبيلها ضروباً شتى من العناء والرهق ، وقد يواجهون في طريقهم من الأنكاد والصعوبات أو يستهدفون به جراءها من الشحناء والعداوة ، ما هم في غنىً عنه لو كانوا من ناحية منازلهم وأوضاعهم في حال أفضل وأيسر واكفل بالمطالب.
فهو يتحدث لقرائه عبر هاتيك الحكايات عن قصر فخم نشأ فيه وأمضى سنواتٍ طوالاً من عمره ينعم بما في غرفه وحدائقه من دواعي السعادة والهناء ، وحوله من الخدم الملبينَ نداءه وقتما يشاء ولا هم لهم إلا أنْ يكونوا عند حسن ظنه ، فضلاً عمن يعاشره في القصر ويساكنه من الغانيات والجواري ، مما يستدعينا أنْ لا نعجل لتصديق ما يفضي لنا به من وقائع وأحاديث جرَتْ لساكن القصر ، وأنْ نتيقن أيضاً بأن الأمر لا يعدو أنْ يكون فذلكة اصطنعها هذا الكاتب الجاد لتنقل لنا الجانب الأوفى من لمعات فكره الثاقب وما صار إليه من أنظار واتجاهات عقلية بصدد شتى مجريات الحياة وشؤون الجماعات الإنسانية ، وما تتإلى عليها عبر الحقب والأزمان من أهوال وصراعات وحروب ، وأوقات ساد إبانها السلم والتعاون ، وخلد الناس إلى الدّعة والاستقرار وزهدوا في الاقتتال والتجهز للنزال والصيال ، أما ما تتسم به هذه الفصول من بداعة الوصف وجمال التصوير ونفوذ إلى دقائق الأشياء بالتوقل على أسلوب وبيان هما غاية في الطلاوة والعذوبة والإيفاء بالمعنى في غير حذلقة وإعضال ، فحسبه أنْ يحمل القارئ على أنْ يسجل إعجابه الفائق بما تأتى لإسماعيل مظهر من قابلية على القص في غير نزوع لأنْ يسلي قارئه ويصرفه عن همه أو يتملق غرائزه ، إنْ لم يضع في حسبانه حفزه للتفكير والتأمل والحرص على جعل حياته أحفل بالسواء والاستقامة وأدعى لشعوره وإحساسه بالكرامة ، منها إلى ما يسقطه في نظر عشرائه من التبذل ومجانبة المثل الأعلى.
وشأن من يحنون إلى مراتع نشأتهم ومدارج لهوهم وعبثهم إذ هم في حل ٍ من كل تبعة ومسؤولية ، ولم يبتلهم الدهر بنكباته وصروفه ، يفضي الكاتب إلى قرائه بزيارة القصر في سنيه المتاخـرة بعد أنْ غادره إلى شقة متواضعة في غير حيهِ القديم وقد طغتْ المدنية الحديثة بمآتيها من جلبة وصخب وضوضاء ولهاث موصول وراء ما صار لزاماً على بني النوع أنْ يحققوه ويظفروا به من رغائب وأوطار ، فإذا الريح تتجاوب بين جنبات القصر وتعبث بنوافذه وأبوابه ، مخيلة للزائر الملم أن كل شيءٍ مصيره إلى الفناء والعدم ، وليس له إلا أنْ يوطن نفسه على المصابرة والرضا بما قسم الحظ ، ويعللها بأبيات من الشعر قالها حافظ إبراهيم ذات يوم ، وقد مر بمثل هذا المشهد من الشوق والتحسر على الماضي الغائب والمنطوي بمسراته ومباهجه ، وانتهى إلى حال من الإحساس بالضّعف والعجز ونضوب الحيوية صيرته في أشد الحاجة إلى مَن يواسيه ويأخذ بيده وسط هذا التيه :
لمْ يَـبْـقَ شـَيْءٌ مِن الدنـْيا بأيْـديْنا إلا بَـقـِيـة دمـْـع ٍ فـِـي مــَـآقِـيْـنا
كـُنـا قـِلادَة هـذا الدهر فانفرَطتْ وفِـي يَمِيْن ِ العُلا كنـا رياحِـيْـنا
كـَانـَتْ مَنازلـُنا بالعِـز شـَامِـخـَةً لِرَجْم مَنْ كانَ يَبْدُو مِنْ أعَـادِيْنا
فلمْ نزَلْ وصُرُوْفُ الدهْر ترْمُقنا شزْرَاًوتخْدَعُنا الدنـْيا وتـُلـْهـِيْنا
حَـتى غـَدَوْنا ولامـَالٌ ولا نـَشَبٌ ولا صَـدِيْـقَ ولا خـِلٌّ يُـوَاسِـيْـنا
علماً ان نجله الأديب لمْ يُعْنَ بشرح ما تضمنته هذه الفصول من فحاوى وأغراض في تقديمه لها ، إنـما اقتصر على التعريف بخصائص المرحلة التي جازها الوالد الأبر من ناحية النشاط الثقافي الذي اتسمَتْ به عقود ما بينَ الحربين ، يوم كانتْ الأمة العربية في شتى دياراتها ومواطنها تتطلع إلى الحرية والاستقلال واطراح مخلفات القرون جانباً في كل ميادين الحياة بما فيها طرائق المنشئينَ والكـُتـاب في صوغ جملهم وتدبيج عباراتهم ، وتعداها إلى الإسهاب في أصداء غيابه ورحيله في أنفس بعض الأدباء الأعلام وفيهم غير واحد ممن خاصمه ذات يوم واختلف معه وعنه في استقراءاته وتوجهاته الفكرية ، فمال إلى إنصافه والإقرار بدالته على العرب المحدثينَ تنويراً وهدياً وتثقيفاً وإشفاقاً أنْ يستطيبوا حياة كلها جهل وعماء وضلال وخسف ، وعدوهم يستأثر بما يمتلكون من خير وخير عميم.
وما أدري أكانتْ سوق الرقيق موجودة حتى هذا اليوم بعد أنْ قطعَتْ الأمم بمختلف أجناسها وقومياتها شوطاً بالغاً في التحضر والعمران لا من ناحية إقامة المنشآت والمباني والفنادق الفخمة التي يتنافس ذووها ويتبارونَ في تقديم الخدمة الراقية لمنتجعيها والوافدينَ عليها من السياح والساسة والمدعوينَ للمؤتمرات في شتى عواصم الدنيا وحواضرها ، بلْ أعني الجانب الأخلاقي والعنصر الوجداني والناحية النفسانية وغير هذه من العناصر والأسباب الملزمة الآدميينَ بمختلف نحلهم وعقائدهم ومنابتم أنْ يصطلحوا على الإخاء والتسامح ، ويجانبوا ما وسعهم العلائق السطحية أو المتوترة أو يجنحوا في أي حال إلى المسالمة ، متحاشينَ قدر الإمكان أنْ يدلوا بالازدراء والإضغان حيال غيرهم من الجماعات أو الفرق أو الهيئات.
ذلك أن الكاتب يحدثنا في أحد فصوله عن النخاسينَ في بلاد القوقاز والأناضول ممن يختطفون ” الأولاد والبنات صغاراً وشباباً ، ويحملونهم إلى عملاء لهم ينقلونهم إل خارج البلاد ” ، ولا يستثنى وادي النيل فقد كان فيه إبان زمن مضى سوق نافقة لهذه التجارة الرخيصة ، حيث يباع فيها البشر من سيئ الطالع كبقية السلع التي يبتغيها الناس ، ويمعنون فيها نظراً ليتأكدوا من خلوها من النقص والعيب ، وكذا حال السبايا المعروضينَ للبيع من التدقيق في جوارحهم ومزاياهم قبل وقوع الاختيار عليهم وعقد الصفقة النهائية لانتقالهم من مالك لآخر.
ولا يلفي المؤلف لذلك من مسوغ أو سبب أو ذريعة تبيح لصنف من الخلق التحكم برقاب الآخرين واستعبادهم وامتهان مصايرهم غير ما يسميه قانون الشهوة ، والشهوة مسيطرة أبداً على انفعالات الإنسان دون أنْ يرعى حيال المرأة خصوصاً حدود الله أو قيود الشريعة وضوابطها التي تلجمه عن الاندفاع والتمادي في التعدي وهضم حقوق الضعفاء وتجاهل أقدارهم وحرماتهم ، ولا قيمة عنده لكل ما ادعاه الشاعر العباسي عبد السلام بن رغبان الكلبي ، الملقب ديك الجن من ندامة على تسرعه في قتل زوجته التي ارتاب بسيرتها وصدق تلفيقات واحد من أرحامه بهذا الخصوص.
فالأبيات الشعرية الستة التي اشتهرَتْ من بين شعره الكثير الذي يفوقها براعة تصوير وتتقاصر دونه فناً ولغة حسبما يستقري مؤلف (شعراء الواحدة) الشاعر نعمان ماهر الكنعاني ، وسجل أن لها يداً في حث الدارسين على تقصي شعره وذيوعه ، وبالتالي أنْ يكون له ديوان مطبوع ، نتيجة أنْ عده الدارسون أولاء من شعراء الواحدة ، هذه الأبيات التي يشوم فيها الكنعاني جماع عواطف الشاعر وانفعالاته من شوق وحنين وألم ، وينظر لها الكاتب المفكر دون النظر العقلي الصارم نظرة تكرس إحساساً مزوراً وشعوراً ملفقاً وعاطفة لا محل لها في كيان تتحكم فيه الشهوة ، وماتتْ فيه كل أسباب الحب والرحمة والحنان ، ولا ينطلي عليك ما أولع به النقاد والمحللون والشراح من توفيقه في التصوير والتشخيص ، وتوسله لهما بما في طاقته وخبرته وذوقه الفني للسلس الرائق من اللفظ ، ولو تحريْتَ نظيراً لها في آداب الدنيا جميعاً لما عثرْتَ بما يماثلها إمعاناً في القساوة والغلظة والنزق ، يقول ديك الجن :
يا طـَلـْعَةً طـَلـَعَ الحِـمَـامُ عَـلـَيْهَا وجـَنى لهَا ثـَمَـرَ الردَى بـِيَدَيْها
رَويـْتُ مِن دَمِها الثـرى ولطالمَا رَوى الهـَوى شفتي مِن شَفتيْها
قـَدْ بَاتَ سَيْـفِي فِي مَجَـال خِناقِها ومَدَامِعِي تـَجْـري عَلى خـَديْها
فوَحَق نعْليْها ومَا وطِئَ الحصـى شـَـيْءٌ أعـَـز علي مِن نـَعْـليْها
مَـا كـَانَ قـَتـْـلِـيْـها لأنـي لـَمْ أكـُنْ أبْكِـي إذا سَقـَطَ الغـُبَارُ عَـليْها
لكنْ ضَننتُ على العُيُون بحُسْنِها وأنِـفـْتُ مِن نـَظـَر الغلام إليْها
فما أصح إزاء هذا الفهم للشعر والاجتهاد في تفسيره ، ما أرسله أحد مؤبني إسماعيل مظهر غداة نعيه أنـه ” ظل طوال عمره يخدم البرهان العقلي ويتعمق في المعرفة وينشد الحقيقة ويحتقر الأدعياء الذين أقاموا شهرتهم على ترديد النوادر والمحفوظات في السهرات والصالونات “.
مع إسماعيل مظهر حول قصيدة لديك الجن
Source : https://iraqaloroba.com/?p=5995