مؤسسو مصر الحديثة
مؤسسو مصر الحديثة
هناك سلسلة كتب تصدر بعنوان ( تعرَّف إلى العالم ) ، أغلبها مترجَم عن اللغات الأجنبية وأبينها الإنجليزية بطبيعة الحال ، واعتاد الناشرون أنْ لا ينسبوا الكتاب المترجَم الواحد إلى مترجم ٍ بعينه رغم ما يبين عليه ويتسم به من جمال الصِّياغة وطلاوة الأسلوب وإيفائه بمراد المؤلف الأصلي ومبتغاه ، إنـَّما يعزون هذا الجهد وينعتونه بأنـَّه منقول إلى العربية من قبل لجنة الترجمة في المكتب التجاري ، وما أفقه شيئا ً عن الصِّلة بين التجارة والمشروعات الثقافية المنجزة خاصة إذا كانتْ موفقة متألقة ومتسامية في منطلقاتها وإبداعاتها .
والغريب أنْ تقع دار الهلال بمصر بمثل هذا الشَّطط والخبط فقد لا تضع اسم المترجم على أغلفة رواياتها المترجمة مع أنَّ بعضها من عيون الأدب العالمي ، إنْ لم تمعنْ في الخطأ أكثر وتجُر على عناوينها ومؤلفاتها ، فأسمَتْ قصَّة ( الآباء والأبناء ) باسم ( صراع الأجيال ) ، و ( الجريمة والعقاب ) باسم ( المرابية العجوز ) ؛ على حسن استيفاء المترجم المجهول لخصائص ومتطلبات واجبة من الدِّقة والأمانة ممَّا يتناسب ويليق بمأثور كلاسيكي عريق ينجزه تورجنيف أو دستوفسكي ، رغم ما مُنِي به الأثر الأخير واستهدف لبعض الاقتضاب واستبعاد بعض الوقائع منه ، غير أنَّ هذه الهنة لا تجري على طول الخط ، فمن الرِّوايات المشهورة ما صدر عن الدَّار المذكورة ممهورة بأسماء المترجمينَ المعروفينَ لضمان رواجه وانتشاره وتداوله في الوسط الثقافي مثلما حصل بالنسبة لرواية ( ابنة القائد ) أو ( ابنة الضَّابط ) لبوشكين التي قام بنقلها إلى العربية الرَّاحل الدكتور سامي الدروبي في غاية ما يمكن أنْ يوفي عليه المترجم من عوامل الصِّحة والإشراق والتمام .
وهكذا وافانا من هذه السِّلسلة كتاب ( مؤسِّسو مصر الحديثة ) للكاتبة الإنجليزية ماري رولات ، ممَّا أنجزته لجنة الترجمة في المكتب التجاري المذكور ، بذلك الأسلوب المُتدَّفق المطبوع والتعابير المشرقة الأنيقة غير الهادفة أصلا ً إلى أنْ تؤسر القارئ وتنال إعجابه بقدر ما أنـَّها ترمي إلى تنوير عقله وتعريفه بالحقائق وماجريات الأحوال المتعلقة بتاريخ مصر الحديثة وهي تصارع الحوادث وتتخطاها لصنع حاضرها ومستقبلها المنشود .
ولا بُدَّ من تقديم نبذة موجزة عن هذه المؤلفة المنصفة ، فهي حفيدة أحد خدام الاستعمار القديم الذي كان يعمل مديرا ً عاما ً لشركة مياه الإسكندرية في نهايات القرن التاسع عشر ، ومع ذلك لا تحجم عن مصارحة قرَّائها بأنَّ عهد الاستعمار بمثله العليا ومصالحه الشَّخصية قد أوشك على الانقراض مهما حاول المشاغبون وذوي المطامع والرَّغائب إحياء شبحه ، وتنهي فاتحتها بتلخيص مشكلات عالمنا المعاصر ، وتهيب بأبناء الجيل الحاضر أنْ يوجدوا حلولا ً ناجعة لها ، فتلفيها في الجوع والبطالة وزيادة عدد السُّكان ، وأخيرا ً زوال الإيمان من النفوس ، فضلا ً عن التطورات الفنية السَّريعة التي نجم عنها تمادي فئات من البشر في الأنانية وحبِّ الذات وهنا غاية الخطورة على حياة النوع الإنساني ، ولا تفقد الأمل في أنْ تتواصل الجهود وتتوحد لصنع عالم جديد أفضل بعد أنْ يسود الوفاق والتفاهم وينتفي التنازع والاحتراب ؛ إنـَّها تروي قصة الثورة العرابية ممثلة بسيرة اثنين ِ من أعلامها وأقطابها ، هما :ـ أحمد عرابي ، والشَّيخ محمد عبده ؛ أو حكاية ضرب الإسكندرية عام 1882م ، كما أسماها وأرَّخ لوقائعها عباس محمود العقاد ذات يوم وأصدر كتابا ً حافلا ً بالأسماء والتفصيلات ، سوى أنـَّها تربو عليه وترجح في قوَّة إيمانها وشدَّة تعاطفها والكفاح الباسل الذي شنـَّه رهط من الوعاة والمستنيرينَ في مواجهة السَّيطرة الأجنبية وتدخـُّلها الشَّائن في شؤون بلادهم ومقدَّراتهم وهي البعيدة المجنبة التي لا تمتُّ لهم بآصرة وتنشد بميثاق فهي أيضا ً ـ ومن هذا الوجه بالذات ـ صاحبة رسالة ، تقرب في مراميها وغاياتها من الأحلام البشرية التي تراود بعض ذوي الضَّمائر النقية والنيَّات الطيِّبة .
وتتلخص قصَّة هذا الكفاح الشَّريف في الاعتراض على نوازع الخديوي توفيق في ممالأة الاحتلال والإذعان لمطالبه في تصفية الجيش من العناصر المخلصة التي تطمح إلى تشريع دستور للبلاد وتحريرها من هيمنة الدُّخلاء ، وما استجابته لتعيين أحمد عرابي وزيرا ً للحربية إلا من باب الاضطرار والفرَق من الغضب الشَّعبي يوم المواجهة المشهود بينه وبين عرابي الثائر وحضور القنصل البريطاني العام ، فقد تضمَّنتْ مطاليبه صيف عام 1879م ، إقالة الوزارة وفيها وزير بريطاني وآخر فرنسي وتأليف مجلس للنواب وزيادة قوة الجيش ، فأجابه الخديوي :ـ ” أنا الخديوي وسأفعل ما أشاء ” ، فردَّ عرابي :ـ ” لسْنا عبيدا ً ولن نقبل من الآن أنْ يتوارثونا ” ، وهنا تدخـَّل القنصل العام ، قائلا ً :ـ ” لماذا تطلب مجلس النواب وأنتَ جندي ” ، فأجابه عرابي :ـ ” لأضع حدا ً لحكم الظلم والطغيان ” ؛ وتتطور الأحداث بأنْ يزداد الخديوي عتوا ً وحنثا ً بأوعاده ومواثيقه ، وتستثار حفائظ الإنجليز على مصالحهم من أنْ يلوي بها هذا الثائر الخارج من صفوف الشَّعب ممثلا ً لجموع الفقراء والمستضعفينَ بعدَ أنْ ألف الحزب الوطني لإنقاذ مصر من الأحكام الجائرة معتبرا ً هذا الهدف ـ في بيان نشره ـ واجبا ً مقدسا ً وحقا ً لا نزاع فيه ، وأخيرا ً تؤول النتائج بعد وقائع يطول شرحها إلى وقوع الثائرينَ في قبضة الجناة الحقيقيينَ الذين سرعان ما وجدوا في بعض المرتزقة وأدعياء التوجيه والتنوير أبواقا ً تزيِّن غدرهم وحماقتهم في وجدان الناس وتروضهم على التكيُّف والأوضاع الجديدة لاستئناف حياتهم بلا سخط ولا نقمة .
والأغرب أنْ يلقى عرابي وجماعته عونا ً في برودلي المحامي الإنجليزي المشهور في ذلك الوقت ، وفي المستشرق الإنجليزي المشهور أيضا ً ولفريد بلنت ، وقد بذل الأخير مجهودا ً فاق به ما يتوقع صدوره عن مواطن مصري صميم ، حيث افتتح بعد عودته إلى بريطانيا اكتتابا ً للدِّفاع عن المسجونينَ ووجد في تطوع المحامي برودلي والمستر شارل نابيل مساعدا ً له في الدِّفاع عن القضية المصرية.
وغبَّ عودة عرابي من منفاه في جزيرة سيلان بعد معاناة طويلة للمرض ومكابدة قاسية للاغتراب وقد تبدَّلت الحال غير الحال في مطلع القرن الماضي ، حيث كثر اللائمون والمتجنون ، واستجدَّتْ آراء ووجهات نظر شتى في حركته ومداها من الصِّحة والخطأ والحكمة ، أو خلافها من التسرُّع والارتجال ، وما أرجف به المتقولون من أنـَّها عادَتْ على البلاد بالكوارث والمآسي ، أو ما راح به أشياعها وأنصارها يعلونه جهارا ً وسرارا ً بأنـَّها تظلُّ الشُّعلة التي لا تنطفئ ولا تخمد جذوتها الأعاصير البتة ، نقول بعد إيَّابه من المنفى استقبله مواطنه الشَّاعر أحمد شوقي بقصيدةٍ من نظمه البارد متشفيا ً بما آل إليه من مصير وما انتهى من عقبى ، فقد حلـِّئ عن مناصبه وانتزعَتْ منه الرُّتب والنياشين ، وهذا هو جزاء كلُّ عاص ٍ يفقد الحجج والذرائع لعصيانه ، كما اكتنه هذا المعنى الذي تلف وتدور عليه قصيدة شوقي لأنـَّه غير مقنع حتى بالنسبة لصاحبها ولم يكنْ عرابي أخرس تمتاما ً ، فقد جهر غير مرَّة :ـ
” إنـَّني ابن فلاح مصري وقد حاولتْ كلَّ جهدي أنْ أحصل كلَّ شيءٍ للوطن العزيز الذي أنتمي إليه وأحبُّه من كلِّ قلبي ” .
وفي الكتاب أشتات من نضال محمد عبده وصلته بجمال الدِّين الأفغاني وتنقله بين بيروت وباريس ، وأخيرا ً إقامته بالقاهرة بعد العفو عنه واستئنافه مقارعته لخصومه من الرَّجعيينَ والمضللينَ وما يحيط به القارئ علما ً ويجده مبثوثا ً في دوريات ومراجع أخرى ، ولكن ليس مصبوبا ً بهذا القالب اللفظي الجميل ولا ينطوي أصلا ً على مثل هذا التحمُّس الشَّديد لقضية مصر والتعاطف معها أصلا ً.
مؤسسو مصر الحديثة
Source : https://iraqaloroba.com/?p=2953