موسى كاظم نورس كاتباً وأديباً
موسى كاظم نورس كاتباً وأديباً
صدر كتاب بالعنوان الذي نستهل به مقالتنا عن دار الشؤون الثقافية العامة محتوياً على الآثار المقالية والمقطعات والقصائد الشعرية التي اسلفها للجيل المتأخر ولذويه و ورثته الكاتب الراحل موسى كاظم نورس ، وأرى أن معديه للطبع و النشر غير موفقين في التوقف عند هذا العنوان ، أو إيثاره على وجه أصح ، فلا مراء أن ثنت الجهة الناشرة وشفعت الخطأ الأول بخطأ ثانٍ ، من شأنه أن يوهم بكونه دراسة مستفيضة في نتاجه جملة ، حتى أنها عزت للمرحوم الدكتور عبد الرزاق محيي الدين الذي كتب كلمة رثاء موجزة غداة نعيه نشرها في جريدة الجمهورية في 28 شباط عام 1982 م ، وأخيراً شاء ذووه أن يستهلوا بها هذه الأشتات من المقالات والخطرات والشذور المتنوعة من قبيل التقديم المبتسر لها ، تلته نظيرات له دبجها لفيف من الأدباء العارفين بمكانته ، والمعجبين بنشاطه الفائق وأدبه الجم هم الأساتذة كوركيس عواد ونعمان ماهر الكنعاني وطارق الخالصي وجلال الحنفي وسالم الالوسي ، قلت ان تلك الجهة الناشرة اذ شرعت بفهرسة الكتاب ونوهت بالجنس الأدبي الذي يندرج فيه واضفت عليه رقماً للايداع في دار الكتب والوثائق ، نسبته إلى الدكتور عبد الرزاق محيي الدين مع انه غادر هذه الدنيا الفانية بعده بمدة وجيزة ، وما كان مكتنهاً نزوع أولاده وحرصهم على ترتيب هذا النتاج وتبويبه وتصنيفه وتقديمه لمعاشر القراء على انه لون من الأدب المطبوع والمعهود عن واحد من اعلام الجيل الأول ، قد لا يوافق مشاربهم ويوائم أمزجتهم وتروقهم موضوعاته ويستهويهم اسلوبه وصياغته.
واذا صح أن نسلك المرحوم موسى كاظم نورس في عداد الكتاب الذين سدوا فراغاً في الحياة الثقافية وزخرت الصفحات الأدبية لصحفنا ومجلاتنا بكتاباتهم منذ أواخر العشرينيات ( من القرن الماضي ) لغاية رحيله في شباط عام 1982 م ، على زهادته واقلاله من الكتابة والنشر وتخصيصه جل أوقاته للترجمة عن اللغة التركية حيث نقل منها ثلاثة مصنفات تاريخية مأثورة لثلاثة من المدونين الأثبات الذين جاسوا وراء المجتمع الاسلامي بمتنوع عناصره وقومياته التي تبدو ظاهرياً مؤتلفة اعتادت التوافق وتكييف حياتها هي والسيطرة العثمانية ومجاراتها في مشيئتها وهواها، فإن رصيده أو نصيبه من الشعر الفني ضئيل ولا يعتد به، ان لم يكن في عمومه أقرب إلى النظم منه إلى الشعر المفعم بالأحاسيس والعواطف عدا شوارد قليلة خاصة تلك انبرى في نسجها وصوغها مستوحياً شاعرية علي الشرقي ومحاكاته في تأملاته الفلسفية ، فكان يحسن ان تستبعد هذه المنظومات ويغني عن نشرها ضمن هذه الشذور التي يجتني القارئ منها مادة نفيسة وثرة ان لم تتمثل في ما اشتملت عليه من افكار ومعان شتى ونوازع متباينة ، فقد تنطوي تانك الثرارة والنفاسة على البيان السلس والتأدية المتفننة والترسل بوحي العفوية والسليقة ، مما نستدل منه على بلوغ أدبائنا ابان الثلاثينيات شأو اقرانهم أدباء مصر والسير على منوالهم في ابداعهم ونأيهم عن الجهد والتكلف ، وكثيراً ما أشبهت بعض مقالاته في اكتنازها واحتوائها على المعارف والحقائق وأوضاع الحياة التي تكتنف حياة الجمهور وما يشوبها من درن ونفاق وسوء وانحلال وتراخٍ في الهمم والعزمات، مما يستدعي السخرية منه وعدم الإذعان لضغوطه ، قلت أشبهت بعضها في توجهها وغرضها مقالات المازني الذي كان يسح بالكلام سحاً و يرسله على الورق فيما يقول صديقه عباس محمود العقاد الذي أرخ هو الاخر لثورة عام 1919م من خلال استقصاء سيرة زعيمها سعد زغلول وتخطيه المحن والنوازل ، وانتهاجه سلوكاً قويماً يتسم بالمرونة والملاينة حيال هفوات معاشره واصفيائه وما يجلبونه من المتاعب والمضايق غير انه لا يعرف للخجالة معنى في تصرفه وتعامله مع الاحتلال ، وكادت هذه الدراسة التاريخية الرصينة تستوي على الدقة والتمام واستنادها إلى الوثائق والأسانيد والدلائل الصحيحة لولا أن جاء مسك ختامها، كما يقولون ، القصيدة المتهافتة من نظمه البارد في رثاء سعد فشان ذلك تماسكها وموضوعيتها والشيء بالشيء يذكر على كل حال.
وأجدني بعد في غير حاجة لأن أنوه بدأب موسى كاظم نورس ومثابرته على الدرس والإطلاع وتصفح مظان التراث العربي وعدم تعويله على التحصيل المدرسي الفائق في ذلك الزمن البعيد المنطوي ، ولم تكن فرص التعليم المنظم متاحة ومهيأة أمام الجميع، وعقب انخراطه في الوظيفة مديراً للبرق والبريد في ظل الانتداب البريطاني في هذه الجهة أو تلك من انحاء الوطن ، وشاء القدر أو المصادفة أن يحل في النجف مديراً لدائرتها البريدية، فاختلط بأدبائها شعراء وكتاباً ، وانفتح على الجو الفكري المائج بالمحاورات والمجادلات ومطالعة نفائس الكتب والآثار الأدبية ، فلا غرو أن اكتملت عدته الثقافية واسترفد زاده الفكري من تلك المنابع الثرة فريضت ملكته وسلس بيانه وزادت نظرته لما حوله من طبائع الأشياء وماجريات الحياة عمقاً ونفاذاً ، وكان حتماً أن تستلفته بعض النقائض الاجتماعية الغالبة على حياتنا اليومية ، فأمعن في ذمها واستهجانها ، وأبينها الكذب والملق والمداهنة والحسد والوصولية والإغتياب مما نلحظه تحت مبضعه وموضع تشريحه و معالجته ، فيبين لنا كذباً ما نتوهمه من استقامة الأخلاق في الجيل الماضي ، ويتضح لنا أيضاً أن الدنيا مجبولة على الكدر أبدا وتعج بالشرور ، وان معاشر الناس في هذا الزمان في غاية الخبط والضلال حين يخالون من سبقوهم في حال أهناً وأخلى من الإيجاع والايلام ، بدليل أن شكوى الأدباء والمفكرين في كل عصر وجيل من طغيان هذه الأدواء والسوءات متواصلة مقرونة بدعواتهم إلى الإصلاح ، والا بماذا ينشغلون؟
هذه هي المحصلة التي اجتنيتها من تراث هذا الأديب القمين بالذكر في معارض الثواب وجزاء الصفوة الأفذاذ من المؤثرين وطنهم بثمار قرائحهم قبل ان يختصوا نفوسهم وذاتيتهم بقسط منها حيث النتاج الخواء والكلام الفارغ والثرثرة المفتقرة إلى تجسيد المداليل الإنسانية والقيم النبيلة.
وكفاه منة انه أعاد الي ذكريات من فتوني وعهدي الأول بالطلب والتحصيل الأدبي في سنين ماضية من حياتي ، يوم كان الزحام والضجيج في شارع الرشيد وبالذات في منطقة الحيدرخانة عينه حيث يقبع مقر جريدة الهاتف في أحد الأزقة المتفرعة منه ، وقبل اكثر من نصف قرن ، ويتوافد عليه احبار الكلمة واشياخ البيان وأقطاب الأدب أمثال الحاج عبد الحسين الأزري والشيخ علي الشرقي ومصطفى علي ومحمد حسن الصوري وعبد المجيد لطفي ومحمد علي كمال الدين ومحمود شوكة وجهاد العبايجي وموسى كاظم نورس نفسه ، حيث يقيمون يومهم، يوم الهاتف الأدبي، فتختلف انظارهم وتتباين منطلقاتهم بعيداً عن القدح والتجريح والتخرص ، فيا لمهرجان الذكاء والألمعية والرجحان لنفوس تعي قيمتها ولا تدعي ما ليس لها وفيها ، نفوس مبرأة من عقدة الشعور بالاجحاف والغبن مطالبة بني النوع أن يلتفتوا إليها ، علماً ان المارة والعابرين من الناس يومذاك غبر اليوم معظمهم، وصاروا أثراً بعد عين ، وانسلوا خفافاً من دون أن يفطن لهم أحد ، وبقي بعدهم الزحام والضجيج .
موسى كاظم نورس كاتباً وأديباً
المصدر : https://iraqaloroba.com/?p=11716