كتاب التاريخ الإسلامي لمؤلفه ليوني كايتاني في رسائل التعليقات لمعروف الرصافي
كتاب التاريخ الإسلامي لمؤلفه ليوني كايتاني في رسائل التعليقات لمعروف الرصافي
أسمى الراحل جمال الدين الألوسي طريقته في كتابة السيرة لمن يمحضهم إعجابه من المشاهير بالطريقة الوثائقية. حيث يجيء مؤلفه عمن تركوا في مجتمعاتهم دوياً ، مستوفياً غاية ما يبتغيه القراء من كتابات كهذه من دقائق الأخبار وصحائح الأنباء والمعلومات ومالايكاد يعثر به في مصنف آخر ، ففي سائر مؤلفاته نلحظ الاقتباسات الوفيرة من نتاجات من يترجم له على شاكلة توهم بامتزاجه هو وصاحب الأثر ، ويسوق ما ينقله من الشواهد عنه دون أن يفطن القارئ إلى أيما فجوة أو يلفي ذاته في حاجة إلى توقف وانقطاع عن القراءة ، وقد يجد نفسه في غنية عن مراجعة عموم نتاجاته إبان هذا الظرف الذي كثرت فيه المشاكل وتشعبت الاهتمامات ولا محيص له من أن يلم بصورة كافية أو يحيط علماً بماجريات الثقافة الإنسانية ودواعي الفكر.
ولعل مصنفه عن الفهامة (محمد كرد علي) مؤسس المجمع العلمي العربي في سورية والذي حيي حياة طويلة وعريضة معاً ، فقد حفيت بالدالات والمفاخر بحيث لا يدانيه آخر في إيثاره ودأبه وإخلاصه وتناهيه في خدمة العرب وتبيان أفضالهم وعوارفهم على الإنسانية ، مع انتهاجه سبلاً وطرائق قد لا يقره آخرون أو يسلمون له بصوابها ومشروعيتها ، وذلك في طور من حياة هذه الأمة التي رزحت عقوداً من السنين في أغلال الترك وطال رقودها في دياجير عسفهم واستبدادهم ، حتى اختلطت الأوراق وتباينت وسائل ذوي الرأي للانفلات من ربقتهم ولو في أدنى حد من التحسس بالحرية والإنعتاق. وكذا توزعوا بين المواجهة والصدام المباشر مهما استتبع ذلك من الأضرار والنكد أو اللجوء للمسايرة والملاينة وتأجيل نيل مناهم وبلوغ قصدهم شوطاً آخر ، قلت لعل هذا السفر النفيس بما توافر له من منهجية وحسن استقصاء وغوص وراء الحقائق والوقائع وخوافي الأسرار ، هو الأدل والأميز من بين سائر كتبه بالاتسام بتلك الصفة ، اعني صفة الوثائقية المجملة للشؤون والحوادث والمشكلات بدلاً من الإطناب في شرحها وتفسيرها. مما أسهب في سرده وتفصيله عن مسيرته العلمية وتوقه لإعداد كتابه عن خطط الشام ، وبيان صلته وعلاقته بالمستشرق الايطالي الأمير ليوني كايتاني ، الذي تمتنت أواصره بنخبة من جهابذة العرب المعنيين بتحقيق المخطوطات من التراث العربي أمثال العلامة احمد تيمور ، وصنوه شيخ العروبة احمد زكي الذي يعود إليه الفضل في اتصال محمد كرد علي وغشيانه مكتبة هذا المستشرق الفذ الذي زهد بلقب الإمارة المتوارث وتدانت قيمة الثروة والوجاهة في عينه ، واعتقد أن لا شيء يستحق الفخر به من اسباب الحياة ولباناتها غير ما يسلفه لبني النوع من آثار أدبية وفكرية ، وكذا حذق ما تيسر له من اللغات الايطالية والفرنسية والألمانية واللاتينية والفارسية والعربية ، وطاف في أنحاء وجنبات شتى من بلاد الشرق دارساً عاداتها وتقاليدها ، منقباً وراء تاريخها وكنوز تراثها ، حتى تحصلت لديه وفي حوزته خزانة تحتوي نفائس الكتب وغوالي المصنفات ، ولا سيما في التاريخ الإسلامي الذي انقطع لتملي مصادره وتمحيص مظانه ومراجعه ، وذلك قبل الحرب العظمى الماضية فكان مصنفه ذو المجلدات العشرة بعد ترجمته من الايطالية إلى اللغة التركية على يد الكاتب التركي المشهور أيامذاك حسين جاهد ، ثمرة هذا النصب المغني عن كثير من المؤلفات والكفيل بتنوير افهام قومه الايطاليين بقضايا تاريخ المسلمين وما حاق به من شؤون وشجون ، وحف به من مشكلات مستعصية ومسائل تدق على النظر والتفسير ، كما خيل للعلامة محمد كرد علي وخلص له نتيجة تفرسه وتنقيبه.
قلت ان كتاب التاريخ الإسلامي بديباجته التركية متداول بين ايدي المتعلمين والمثقفين الأتراك ، فأولاء الجماعة يهمهم الاطلاع على ما يلهج به الغربيون بشأن العقيدة الإسلامية وظهورها والتبشير بها في جزيرة العرب ، ثم انفتاحها وامتدادها وبسط سلطانها على ما جاورها من الأنحاء والجهات ، ومن دخل في ظلها من العناصر والأجناس حيث جلبوا إليها أشتاتاً من معارفهم وعلومهم ، وماذاك إلا لأن الأتراك العثمانيين هم آخر من تسنم مقاليد السلطة باسم الخلافة الإسلامية.
ويملي الشاعر والكاتب والمفكر الدقيق النظر معروف الرصافي على ماحف بسيرته من طعن وتجريح ، وقدح وتخرص ، ان كتاب الأمير كايتاني تتداول نسخته التركية بعض الأوساط المتطلعة للثقافة الحرة وريادة العلم ، وانه استعاره من احد الشبان المثقفين في بغداد وهو كامل الخيام* لأنه يحسن التركية وقرأه بتدبر وإمعان ، فكانت رسالته الثالثة من تعليقاته التي أحدثت ضجة في بيئات الدارسين لمباينتها في توجهاتها ومنطلقاتها ما درج عليه بعضهم من جمود ومحافظة ، على حين أن محتوى هذه الرسالة الثالثة في نقض أوهام المستشرق كايتاني يجَّب ما صّبه عليه مساجلوه من حقد وتطاول ، ويذود عنه كل اتهام هو بريء منه ، لقاء اجتهاده وتبنيه رأياً بصدد وحدة الوجود قد يكون خاطلاً و مضلاً أو لا يكون ، غير أنه لا يستدعي جملة ما سيق له من مفتريات ومزاعم ، ففي هذه الرسالة يبدو الرصافي في بيانه السلس ولغته السليمة الموفية بأسانيده وذرائعه ومداليله ، قلت يبين داعية اسلامياً متفجراً بدفعه عن حياض الإسلام وبمنطقه السديد الملجم والمتحري عن الحقيقة حتى يجلوها نقية لا يشوبها زيف ولا افتئات ، فهو مباين لما وقع فيه محمد كرد علي من ظن حسن بسريرة كايتاني جراء ما غري به من استهجانه لمظالم بني جلدته الطليان في ليبيا ، وكان الأحجى أن يؤثر القصد والاعتدال في الحكم ، ” فقد يصفو الرنق العكر ويستنوق الجمل ” والإنسان بعد مزيج من الشر والخير ، والصلاح والطلاح.
بل ان محمد كرد علي الذي مكث شهراً بتمامه في ضيافة هذا الأمير ، ولبث مراجعاً مكتبته ، لم يتوقف عندما أنجزه (كايتاني) من مجلدات مصنفه العشرة فيناقشه حول ما عرض له من أنظار واجتهادات فيشوم اغاليطها وعثراتها ، بل أعجبه ما طبع عليه هذا المجتهد من جلد ومراس ، وزهد في أمور المعاش ، وحتى الآلوسي على وثاقة صلته بالرصافي ، وأظنه بالتأكيد كان من قراء رسائل التعليقات ، ولا سيما الرسالة الثالثة المكرسة للرد على العلامة الايطالي ، فهو أيضاً لم يتطرق إلى مجهود الرصافي في تفنيد تخرصاته واراجيفه وفبركاته على الرسول الكريم ورسالته.
وما نريد أن نزجي طائفة من تقولات كايتاني بصدد تاريخ المسلمين وانطلاقهم صوب الفتوحات الإسلامية شرقاً وغرباً ، حتى استتم لهم إرساء هذا الصرح الممرد المستند إلى العقيدة والإيمان ، برغم ما اكتنف حياتهم وواكبها من تحديات وأخطار ومعاضل ، وبالطبع فليس كل رجالاتهم ذوي أيدٍ وعزم ومصابرة ، وليس غريباً أن تنوبهم الهزاهز وتلم بهم أزمان كلها حرد وانتكاس وتقهقر وتراجع ثم تنحسر عن الوثوب والأمل والتطلع ، فتلك موضعها من كتاب الرصافي رسائل التعليقات الذي أغلظ في حجاجه ومحاسبته للمفتري بأنه (تسّرع في الحكم وأخذ بالظن في مسائل يجب التحقيق وتدقيق النظر فيها قبل البت بالحكم عليها.ويؤسفني أني أشم منه رائحة الانحياز إلى جانب دون آخر مما لا يناسب مواقف أهل العلم تجاه الحقائق العلمية) ، وفي تعليقة أخرى يفيد الرصافي : “إن من يقرأ مقال المؤلف تستولي عليه الحيرة ويأخذه العجب من نفيه أموراً لا دليل له على نفيها وإنكارها سوى الظن” ، ورامه في ثالثة “بالخلط في الكلام والخبط الذي لا مزيد عليه ” وتبلغ زرايته حداً في تسفيه دعواه ” إن الإيمان لا يكون إلا بجميع ما جاء به دين الإسلام ” لذا ” ينكر المؤلف وجود المؤمنين بمحمد أول الأمر ، ويقول : إذا كان الدين لم يوجد بعد فبماذا آمن هؤلاء ! “.
هنا عند هذا الحد من الإنتقاص والتواري خلف أقنعة العلم والمعرفة ، بلا تمهل ولا استثناء ، يستشيط الرصافي غضباً ويتسجر غيظاً ، فيصرخ يا سبحان الله أتكون أفكار العالم المحقق بساطة وسذاجة إلى هذا الحد ، كيف لا يعلم هذا العالم النحرير أن محمداً لم يدعُ قومه في أول الأمر إلا إلى كلمة واحدة هي (لا إله إلا الله) وهذه الكلمة معناها الصريح نبذ الأصنام وتخصيص الله وحده بالعبادة ، وأي مانع يمنع الذين آمنوا بهذه الكلمة في أول الأمر أن يؤمنوا بما تقرر بعدها من أحكام وعبادات ومعاملات ، وهل هذا إلا تمحل وتعسف من المؤلف؟
ولعل معروفاً قد استأنف عهده بالدراسات الإسلامية في مطالع حياته وأيام تلمذته لشيخه محمود شكري الآلوسي ، بهذه الكتابة القوية المحتدمة بالحفاظ والغيرة على المحارم والأقداس ، وحالت حوائل ودواعٍ شتى فصرفته بعيداً عنها !.
* المقصود به هو المرحوم كامل الجادرجي.
كتاب التاريخ الإسلامي لمؤلفه ليوني كايتاني في رسائل التعليقات لمعروف الرصافي
Source : https://iraqaloroba.com/?p=10830