كيف سَلِم الدكتور إحسان عباس من لسان العقاد ؟
كيف سَلِم الدكتور إحسان عباس من لسان العقاد ؟
في العدد الأول من مجلة (الكتاب) المصرية المحتجبة الصادر سنة 1948م ، لسنتها الثالثة والمكرس للتعريف بماهية الجمال وأثره في تحسين مظاهر الحياة كافة وتذوق طيباته وتذليل صعابها وجعل منغصاتها هينة ومحتملة قدر الإمكان ، نشر الراحل الدكتور محمد مندور مقالة بعنوان (أشهر الجميلات) إبان ظرف اعتاد الدارسون الظن أنـه ابتعد عن الكتابة الأدبية الصرف وانصرف إلى الاشتغال بالسياسة والانخراط في معاركها والالتحام بمشكلاتها وقضاياها ، قلتُ جاء في سياقها :ـ ” في أدبنا العربي لفظ جميل هو ليلى الذي لا ندري من أين تأتيه العذوبة ، أمنْ ليونة الأصوات التي يتألف منها أم من ذكريات الشعر الذي خلفه المجنون في العامرية ، وتوبة في الأخيلية ، وأخيراً زكي مبارك في ليلى المريضة في العراق ، حتى نسلم من لسانه ؟ ” ، والجملة الأخيرة في هذا الاستطراد هي مناط الأمر الذي رام مندور منه مداعبة زكي مبارك مادام هو بصدد تعداد ذوي الأثر البين في إضفاء الطراوة والعذوبة على النتاجات الشعرية مخيلاً أن استثناءه واستبعاده والغفالة عنه يعد غبناً وإجحافاً وتفريطاً واستهواناً لشأنه ، لأن له منجزاً إبداعياً لا مناص من ذكره والاستدلال به من آن ٍ لآن من قبل الكـُتـاب وإلا استهدفوا لسلاطة لسانه ورُمُوا بكل نقيصةٍ وشنار ، وعليهم أنْ يتحملوا الطعن بسواء نفوس واستقامتهم ونقاء ضميرهم العلمي .
ومن هذه الفذلكة يستقري القارئ ما تخلل حركة النقد الأدبي في الزمن الماضي من تراشق وإمعان في تلفيق السقطات والعيوب بحيث يخرج الغرض من النقد من ابتغاء الجرح والتعديل إلى تكريس الحيدة عن الإصابة ورمي الطرف المقابل بسوء الفهم ، فضلاً عن الجهل والختل وخداع القراء ، ولعل الكاتب الموسوعي عباس محمود العقاد أبرز مَنْ يُوما له بمجانبة التؤدة والموضوعية والتحلي بالرصانة والاتزان في محاججة نظرائه من الكـُتـاب ، فردوده عليهم تتعدى النصفة والاعتراف بقيمتهم إلى السباب المنكر الذي يشتط أحياناً وينزع لتجاهلهم وإلغاء وجودهم ، فلا يقف عند حد أو يؤثر المهاودة في مساجلتهم بله مصاولتهم ، فما ابتدر به الفهامة العراقي مصطفى جواد من استخفافه وزرايته معروف لدى الجيل القارئ قبل سنوات قد تكون بعيدة ، أما تصديه لنقض الأسانيد والدلائل ووجهات النظر بصدد هذه المسألة النحوية أو اللغوية ، وبخصوص هذا النظر الفلسفي أو تلك القضية الفقهية التي من الطبيعي أنْ تتعدد طرق الاجتهاد ونزعات الرأي حول صحتها وتقيدها بأحكام الشرع أو صدور عن الخطل والضلال ، فتمتلئ به صفحات من سفره الضخم الكبير (يوميات) بأجزائه الأربعة ، خصوصاً ما صبه من تسخـطٍ ونقمةٍ ، وكالـَهُ من تسفيه وتطاول على الشيخ أمين الخولي ، والدكتور علي سامي النشار ، وإنْ يعطه القارئ بعض الحق ويسوغ دحضه لآراء الأخير التي لا يسلـم بها وجدان ويركن إليها عقل أو ضمير ، فقد افتأتَ على تاريخ مصر الحديث وزور الوقائع والأحوال الجارية ، وجلا لنا الأفغاني ، ومحمد عبده ، وسعد زغلول ، ومصطفى كامل ، وطه حسين وغيرهم ؛ بأنـهم صنائع ينتجعون عتبات السفارات الأجنبية في القاهرة ، مما تحمد لدار المعارف أنْ تطبع كتاب (يوميات) بأجزائه الأربعة وقد ضم أحدها مقالته في نقد النشار وتفنيد تخرصاته ومزاعمه عن مؤسسي مصر الحديثة وبُناتها ، فلا جرم أنْ يستغرب القارئ المنعم النظر في تراث العقاد والمنقب وراء كتاباته المتنوعة ومباحثه الفكرية والفلسفية والاجتماعية ، حين يلفيها خلواً من أيما ردٍ أو احتجاج أو اعتراض على الآراء التي ضمنها الدكتور إحسان عباس كتابه (فن السيرة) الذي صدرَتْ طبعته الأولى يوم كان العقاد حياً ، ومحال أنْ يتصفحه ويطلع عليه ويحيط علماً بما رامه الدارس المؤلف من رفض لتصوراته حول كتابة التاريخ وإنشاء السيرة الفنية والذاتية وعلى أي قواعد وأركان تستند ؟ ، ومن أي مقومات وأصول تنطلق ؟ ، وأية عناصر وغايات تتوخى أو تبتغي ؟ .
وبعد فماذا كتب إحسان عباس حول عبقريات العقاد الإسلامية المشهورة ومنهاجه في تدوين السيرة وفق الطرائق والأساليب الفنية التي تجب الأحكام المطلقة وتجانب الذم والتحقير للشخصية المراد درسها باستعراض مراحل حياتها وأدوار كفاحها والنظر نحوها بعين الإنصاف لا بالانطلاق من توجهات وآراءٍ معلنة سلفاً ؟ .
لقد ساق مؤلف (فن السيرة) آراءه مودعة في تعابير وصياغات يعتورها شيء من الغموض والجهامة ـ إذا جاز التعبير ـ قد لا يتوضح معناها بتمامه للقارئ المبتدئ والعادي ، غير أنـها لا تشق على فهم الدارس الذي لا يمل من المعاودة عليها بالمراجعة وإنعام النظر ، فبعد أنْ يؤاخذ العقاد على قطعه الوشائج بين قرائه وبين الشخصيات المدروسة المُمَتــعة بصفات وخصائص تختلف عن الطبائع الإنسانية ، يدون هذا الحكم القاطع بأنـه ” لم يكتب سيرة إنـما كتب فصولاً بعضها يتميز بالنظر الدقيق النافذ ، وبعضها يعتمد على قوة الذكاء في الفحص والتبرير ” ، ثم يستطرد بعد شرح وتوضيح لقولته السالفة وينص أخيراً على أن ” الروح الإنسانية لا تبرز من وراء تعالي العقاد نفسه في عرض شخصياته ، ذلك التعالي الذي يجعله أسير الفذلكة الذهنية والتمحل الشديد ” ، ويخلص أخيراً إلى أنـه ” يظل يلتوي ويتمحل ويفترض ، وإنـما جاءه الخطأ من التحيز في التقدير ومن العيب في تصور الناس والعصر ، وليس يشوه الحقيقة مثل قبول الروايات دون نظر أو وضع الافتراضات دون برهان ” ، والخلاصة أن العقاد في تحليله للعبقريات الإسلامية أخفق غاية الإخفاق في ملة الدكتور إحسان عباس واعتقاده ولم يوفق في غير ” الأسلوب التقريري الحاد الذي يملك به القارئ أو يكسب ثقته ، لأنـه في أسلوبه يوحي بأن ما يقوله هو الصدق عينه لقيامه على ما يعتقده أنـه المقرر المرسوم من حقائق العلم والطبيعة الإنسانية ” ، مما يباين في هذه النزعة سائر أشياع العقاد وتبابعته الذين أطنبوا في دوافعه ومنطلقاته في كتابتها ، وما انتهى إليه من مسلمات دامغة عن استيفائها خصائص العبقرية ومؤهلاتها من خلال حسن توافقها مع المجتمع الجديد ومراعاتها لأخلاقياته وتأبيها على المرذول الموروث من عاداته وتقاليده ، فضلاً عن ترسمه في تأليفها منهجاً هو الأمثل في الهداية والتحذير من الزيغ والزلل .
وما أدري بعد كيف نجا الدكتور إحسان عباس وسلم من طعون العقاد ودفعه عن نفسه بعدما طاوله وقاواه ، هو الذي لم ين ِ في التوهين ِ والتخرص وإيذاء الأقران من مجتهدة القلم وأعلام الرأي ، وإلغاء وجودهم ؟ .
كيف سَلِم الدكتور إحسان عباس من لسان العقاد ؟
Source : https://iraqaloroba.com/?p=4460