لعبة الاستعارات وأوهام الكتابة
لعبة الاستعارات وأوهام الكتابة
يستعير ايكو الغابة ليتأمل النص السردي وقضايا بنائه وتلقيه و تأويله ، فهو لا يريد أن يدخل في ترسانة المصطلحات والمفاهيم ويضجر القارئ ويثقل عليه بالتنظير ، لذلك لجأ إلى التمثيل البصري لمحفل السرد الروائي وعن الذات التي تتلقاه وعن مدى صدقه وكذبه واسراره وعليه فأن النص يمثل الغابة فهو يشبهها بكل المزايا والخصائص إذ فيها خوف وسحر وضياء وظلمة ورهبة واستهواء وفرح واستياء ورقيقٌ مخمليٌ وعنفٌ فتاكٌ وفيها مسالك ودروب مجهولة وأخرى رومانسية رقيقة تسعدك بصفائها واجوائها الخلابة وهي التي تنتشر بين اغلالها اشعة الشمس ثم يخيم عليها الظلام فتقلب الانس إلى وحشة .
البشر تعيش فيها على هيأة كائنات متخيلة كما هو الحال في النص السردي ، فإن العالم المجهول في الغابة يعلمنا كيف نتبين الطريق من دون خارطة ، وهو ذاته ما نراه في النصوص ، وكيف نهتدي الى فهم الحوادث وعمقها واسرارها التي من الممكن ان تقع في العالم الواقعي ، فكل الاشياء في الغابة نرسمها في المخيلة لا تختلف عن النص الذي يحثنا على فهم القوانين التي تتحكم فيه مثلما تتحكم تلك القوانين في الغابة ، وهذا ما يفسر قيمة الكتابة وان لم تكن هي الحياة الفعلية ، ولا التفاصيل اليومية المعقدة التي نعيشها ونلامسها ، ومع ذلك نقرأ ونتمسك بأحداثها فكيف نتقبل ذلك ؟ رغم علمنا أن كل ما يحدث ، هو محض خيال ، ومن صنع تجربة شخص محدود الادراك .
يقول ايكو ، مثلما نهرب من القلق إلى الكتابة لقول شيء حقيقي عن عالم واقعي مع ادراكنا ان العالم اوسع مما نحاول ان نضعه على الورق ، ولكن ان نتبين طريقنا ضمن الخارطة من المجهول هو نوع من( الاحجية ) ، وهذا ما يفسر الهروب الى الحكايات والاساطير وقراءة الروايات ومشاهدة الافلام ، مع تصورنا انها لا تمثل الحقيقة بعينها إذ ليس لها وجود إلا في المخيلة ، لأن عملية الامساك بالحقيقة حلم وكل ما نقرأه أو نشاهده لا يعدو أن يكون كائنات منسوجة من الخيال ، وأننا لم نعد نتمكن من تحقيق موازنة بينها وبين الواقع ، ولذا نستجيب لتصواراتنا ربما نصدقها لأنها لم تكن عسيرة فنراها كالحلم خالية من التعقيد .
ومثل هذه الاستعارة رسم جيل دولوز عملية تعدد المعنى داخل الكهف ، فالكهف عالم مغلق تماما لا يمكن الوصول إليه وكشف اسراره ، الجداريات المنحوتة والكتابة على اكتافها ، فبين الكتابة والرسوم أزمنة طاردة للحقيقة ، وكل حقيقة تغيب في الحقيقة التي تدحضها ، ترى كيف يتم فهم هذا العالم الملغز داخل الكهف؟ فظلمة الكهف كما يقول عنها افلاطون ، لا ترى شيئا سوى الظلال تتحرك فيها ، هي في الواقع ليست هناك ثمة حقائق ولكن الاحساس بوجودها يجعل منها حقائق ، وبهذه الوسيلة يعتبر ان العالم لم يخلق تصوراتنا بل ان الانسان هو من يرسم تلك التصورات عنه في ذهنه .
فدولوز وافلاطون كلاهما يجد في الكهف حقيقة مليئة بالأسرار والاوهام ، وان الوجود خارجه لا يتشابه مع داخله ، وإذا كان افلاطون يرى أن داخل الكهف كائنات صماء ومع ذلك تتمتع بمزايا الشكل والموضوع ، فالعالم الذي يسكنها يكتسب الحقيقة التي غابت عنها الشمس وهو الرمز المثالي الذي تنضوي كل المعاني خلفه ، فأن دولوز يرى أن اللاحقيقة أيضا من مستودعات الحقيقة المتوارية تعيش داخل الكهف وخارجه ، ولهذا فأن أي معنى يأتي من قعر تلك الهوة السحيقة وتحت حجب الكهف يستحيل عليه أن لا يغرق في الاعماق ، فالسطح دائما نقيض الاعماق كل منهم ينقصه الآخر ، ولا استقرار لهذه المعادلة إلا بموازنة المخيلة لتعويض آثار النقص .
ولهذا يعد دولوز فكرة الكهف شذرية فنية يمكن لكل الفنون أن تستعين بها وتستنبط منها فهم قيمة اللغز الذي يعيشه الانسان ،افلاطون كان يختار الكهف في رمزه المتمثل في النفس البشرية وما يعتريها من خوف وحذر، وحّوله الى عمل حواري بينه وبين معلمه ،فهما داخل الكهف مع مجموعة مساجين مكبلين من الاعناق إلى القدمين ، وخلفهم مسرح كمسرح الدمى لا يرونه وفوق هذا المسرح نار خافته هي مصدر الضياء الوحيد ويمر من امام هذه النار الحراس وهم يحملون منحوتات مختلفة الاحجام للآلهة والحيوانات والنباتات ، واحيانا يقوم الحراس بإصدار اصوات ، كل ذلك لا يراه السجناء وانما هي ظلال على الحائط يجري امامهم ، فيتبارون فيما بينهم حول افضل تفسير لهذه الظلال ، فيكون شغلهم الشاغل هو معرفة نوع هذه الظلال المجسدة على الحائط .
وهذا الكهف يستعيره دولوز من افلاطون ويعيد انتاجه برؤية فلسفية فنية قابلة للتماثل والتقارب والتأويل ، فقاعة العرض تشبه إلى حد ما من هم داخل الكهف الافلاطوني ، يحبس أكثر من مئة شخص أنفاسهم في غرفة مظلمة لمدة ساعتين تملأ عليهم شاشة عملاقة سمعهم وابصارهم ، فان قيمة ما يجري من حلم ومدى تأثره على ادمغتهم من افكار يباغت وعيهم كونه يشد حواسهم إليه ، ولا شيء سواه ، الظلام الحالك يملأ فضاء القاعة ، والصورة هي التي تتحرك وتهيمن وتختار احداثها ومناطق استفزازها كيفما تشاء ، في تلك اللحظة يكون الفيلم مؤجلا عن الحقيقة ، الافكار تشغل حال المتفرج المحاصر بالظلام ، فقوة تأثير الافكار داخل القاعة يستحيل ان تكون هي نفسها خارج القاعة ، وهكذا نجد لعبة الاستعارات من كهف افلاطون الى غابة ايكو وصالة عرض دولوز التي تبدو فيها الحقائق متماهية في ابعاد المرئيات المراوغة (التي هي الحقيقة الغائبة )ولكن تبقى القيمة الاسمى كيف يمكن اعادة قراءة تلك التصورات في الكتابة ؟.
Source : https://iraqaloroba.com/?p=1185