ملاحظات ثقافية: مفاهيمنا للنقد بعيدة عن جوهر الثقافة*
بعض ممارسي النقد لا علاقة بين نقدهم والنص!!*
حضرت قبل فترة وجيزة ندوة ثقافية، شارك بها عدد من المثقفين، بينهم شعراء ومثقفين، وضيف لم اعرفه سابقا، بدأ يكتب الشعر بعد تقاعده من سلك التعليم، أي اكتشف موهبته الشعرية بجيل الكهولة. قال بعد ان قدم نفسه، أنه أصدر سبعة دواوين شعرية والثامن سيصدر بعد صيف. قرأ امامنا قصيدة غزلية من ديوانه الأول يعتبرها من أجمل قصائد الغزل حسب تأكيد خمسة ادباء، لم اسمع الا باسم واحد منهم، اعتبره لاعبا بلا جمهور.
شخصيا لا يؤثر على فلسفتي الأدبية الا انطباعي الشخصي من النص وليس الترويج الإعلامي السائد اليوم في ثقافتنا تحت عناوين مراجعات نقدية، وبصراحة لا اقرأ من معظم ما ينشر الا العناوين وبعض الجمل وعادة تبدأ بالتهليل والمديح بلا منطق ادبي بسيط، لصاحب او صاحبة العمل، وبأكثر الحالات هي اسماء لم اقرأ لها سابقا ولا اعرف أين تنشر وكيف جعلها “الناقد” بلا وجل من أبرز الأدباء او الأديبات شعرا وقصة لدرجة التتويج كقمة إبداعية من اول غزواتها.
وأضحكني أحدهم حين كتب بلا تردد ان القراء يحتفظون بقصائد شاعر ما التي تنشر بالصحف، ويحتفظون بها لحين صدورها بديوان شعري جديد للشاعر. أي تهريج لا حدود له، حتى لو كان شاعرا مبدعا لا يشق له غبار، مثل هذه الجملة لا تقال بإطار مقال نقدي او حتى خبر ثقافي!!
رؤيتي ان لهذا الانفلات والفوضى النقدية إسقاطات سلبية على تطور المواهب الناشئة وتنمية الغرور القاتل لدى البعض.
في الندوة إياها ذكر شاعرنا أسماء ادباء كمصفقين لشعره، لم اعرف منهم الا اسما واحدا في ثقافتنا، وهو ليس ناقدا رغم انه كتب بعض النصوص تحت اسم النقد. قد يكون من ذكرهم، متعمقين بالشعر وبحوره واوزانه وتاريخ الابداع الشعري. انا شخصيا احترم كل الآراء حتى التي لا اتفق معها. الحضور في الندوة، أثنوا (مجبر أخاك لا بطل، كما صارحني أحدهم فيما بعد) على ما القاه شاعرنا، فطرب لثنائهم. جلست صامتا متأملا واقعنا المتردي ادبا ونقدا.
طُلب مني ان أقول رأيي، لكني فضلت ان أبقى صامتا، لأني لم أجد ما يستحق ابداء رأيي لشعره الغزلي وثم الوطني. حثني زملاء من المشاركين ان أقول رأيي، لان صمت نبيل عودة غير مفهوم. طبعا هذا حقي كمتذوق أيضا، خاصة ان ما استمعت اليه من شعر لم يثر لدي أي حس جمالي، الا أني بعد تردد والحاح من الزملاء وجدت نفسي اكسر صمتي، وأقول باحترام انطباعي السريع لما سمعته، وهو ليس حكما قاطعا بل رأي شخصي تماما، مبني على الاستماع لأول مرة للشاعر المحترم.
احتراما للندوة والحضور وللشاعر كنت أفضل الصمت، لأني لن أقول رايا مناقضا لمفاهيمي وذوقي الأدبي والفكري من اجل تسويق نفسي. لكني كسرت صمتي بإلحاح من زملائي، وربما أكون مبالغا بموقفي السلبي بتقييمي لما استمعت له، لأني اعتمدت على السماع وليس على النص المطبوع!
طبعا قرأ ايضا عدة قصائد وطنية، وهي عملة دارجة اليوم، اشبه بالنياشين على الصدر، لم أجد فيها الا صراخا وشعارات فات موعد تسويقها. وهي من تيار ما يعرف بالشعر المنبري/ المهرجاني الذي لعب دورا سياسيا هاما في حياتنا السياسية والثقافية في أواسط القرن الماضي. لكن لكل شيء زمنه ومرحلته التاريخية، ونكهته التي تتعلق بظروف سياسية وثقافية لم تعد قائمة، او عبرناها بنضال سياسي وثقافي واعلامي لم يكن سهلا وكان مكلفا لحريتنا حين صمت ادباء جيل الكهولة، المكتشفون لمواهبهم بعد ان طيرت العشوش فراخها!!
قلت: لي ملاحظة أساسية لا تتعلق فقط بإتقان الصياغة الشعرية واللغة الممتازة. واضفت: قصيدتك الغزلية خطابية تفتقد للصور الشعرية ولرومانتيكية الشعر الغزلي. انت كمن يلقي خطابا ثوريا. ونفس الأمر قصائدك السياسية او الوطنية كما تحب ان تسميها. الخطابية قوية. اصارحك القول إنك لو القيتها قبل عقدين من السنين لصفقنا لك وحفظنا مقاطعها غيبا. عبرنا مرحلة ليست سهلة سياسيا وثقافيا. لا افهم ضرورة العودة بعد نصف قرن لما تجاوزناه ثقافيا وسياسيا.
قال انه يكتب الشعر الموزون الكلاسيكي. قلت موزون او غير موزون، كلاسيكي او عمودي موزون او منثور. ما استمعت له لا يثير أي انطباع جمالي او فكري. انت تعرف بشكل ممتاز بحور الشعر وتتحكم بلغة عربية ممتازة. لكن ذلك لا يقول شيئا، انا ناقد ذوقي ولست ناقد حسابات ومقاييس واوزان. انت تصرح أنك عاشق، وان معشوقتك جميلة، سحرتك، تسحر الحجر وتجعل القمر يغيب عندما تظهر، وانت تسجد لها خاشعا وادخلت تأوهات تذكرني بأيام مراهقتي. لا تتوقع مني ان أقول للأعور انه أفضل المبصرين. انا اطرح رأيي بصراحة واعرف أنك قد تعتبرني فظا، أنا ارفض ان اثني على نص لا ارى فيه ما يشعرني بجماليته.
قرأ قصيدة اخرى سألته هل انت متأكد أن قصائدك تترك انطباعات جمالية لدي القراء؟ وأضفت اعرف متقاعدين مثلك من سلك التعليم اكتشفوا مواهبهم بعد التقاعد، هل كان صمتهم خوفا على وظائفهم؟ هذا أولا وثانيا اخي العزيز المنهج الشعري المشهور لشعراء المقاومة، وما أطلق عليه اسم الشعر المنبري او المهرجاني، انتهى زمنه ولا يمكن ان يتكرر لأن حضرتك اكتشفت قدراتك المنبرية بعد التقاعد، وبعد نصف قرن من مرحلة شعر المقاومة. الأدب يقيم حسب مرحلته التاريخية أيضا وطبعا بمضامينه الجمالية قبل كل شيء.
دار نقاش وتبادل اراء وتعليقات وجرى الحديث باحترام وساهم الزملاء بآراء اختلفت عن المديح الذي استهلوا به الندوة. وساهم عدد من الحضور بطرح مواقف مشابهة لمواقفي. ومنهم شعراء معروفين تواجدوا بالندوة.
بعد الندوة وجدت نفسي اكتب مقالا ثقافيا عاما حول واقعنا الشعري تحت عنوان “أنقذونا من هذا الشعر” وارسلته للنشر. تفاجأت بعد نشر مقالي الذي لم اتعرض له بشكل مباشر ولم اذكر اسمه، انه نشر ردا معلنا انه هو الشاعر الذي يقصده نبيل عودة بمقاله.
اصلا لم يكن مقالي شخصيا حوله، بل مقال ثقافي عام حول واقع مؤلم يسود ابداعنا الشعري بشكل خاص. حقا الندوة كانت المحرك الذي اثار دافعي للكتابة الثقافية والفكرية والنقدية العامة. كان رده عشوائيا وصبيانيا بتأكيده ان نبيل عودة يقصده شخصيا بمقاله.لا افهم سببا لزج اسمه فانا لم اكتب مراجعة نقدية لديوان له لأسجل تفاصيل الديوان والشاعر. ولم اقرأ عملا له لأكتب نقدا حول مجموعة قد يكون فيها ما هو أفضل مما القاه من شعر في الندوة. بل رؤية ثقافية حول واقع أرى سلبياته والندوة نبهتني لعمق الأزمة الثقافية، وليس لشعره الغزلي والوطني بالتحديد. قد اغير رأيي لو قرأت ديونا له او يكون نقدي مختلفا.
قد يكون الاستماع اقل تأثيرا من قراءة العمل. ما يهمني مضمون الانطباع من استماعي له بندوة، والفكرة التي طرحتها حول الشعر الغزلي والمنبري/ المهرجاني وليس عنه او عن شعره شخصيا ومباشرة. فهذه الظاهرة تملأ الصفحات الثقافية في اعلامنا، وموقفي المنشور لم يكن مباشرا حوله، بل هو ملاحظات عن واقع ثقافي وشعري لعله ينبه الأدباء الجادون لحقائق مختلفة لا بد من الانتباه لها.
فلماذا اخذني صاحبنا كمعاد له ولشعره وليس زميلا صريحا في آرائه ومفاهيمه؟ واضيف ان هذه الظاهرة ليست شخصية له، بل تسود ثقافتنا كلها، وكان ناقدا احترمه قد اتهمني بالكتابة عن ديوان شعر كتب مقدمته، باني صاحب النقد السلبي عن الديوان وانا لم اقرأ الديوان رغم معرفتي بصاحبه، وبعد الفحص تبين لي ان اسم ناقد الديوان هو اسم مزور (عرفت اسم الناقد بالصدفة بلقاء جمعنا بصالون ادبي في الناصرة لمته لأني تعرضت لهجمات بسبب نقده). ولم اشأ ان اطور النقاش الذي استفزني بلا وجه حق، احتراما للناقد ولصاحب الديوان.
واقعنا الشعري للأسف مأزوم ويصح فيه القول: كثر الشعراء وقل الشعر!!
انا تحدثت بالندوة كأديب وليس كعدو، كصاحب راي وليس كمطلق أحكام نهائية. قد أكون على خطأ. انا قلت رأيي امامه بدون مواربة وبصراحة لأني أحترمه، وغيبت اسمه قصدا وليس خوفا. لست جبانا ولكني احترمت نشاطه وحبه للشعر، واكتشافه بعد الكهولة لطاقاته الشعرية. رغم انه حسب رؤيتي لا يرقي لمستوى ابداعي. لعل التجربة تصقله حين يصل للجيل الثالث.
ان الانسان الذي لم يستوعب دروس الفلسفة البشرية منذ عصر الاغريق وحتى أيامنا، يعيش بظلام دامس. الفلسفة، من بين جميع التعاليم هي التي ترقى بعقل الانسان ومعارفه، هي التي تجعل العقل البشري حرا من قيود الأوهام الشخصية، وتحرر تفكيره من القيود الفكرية الرائجة وما اكثرها في مجتمعاتنا الشرقية على وجه الخصوص.
والدرس الذي تعلمته على جلدي: الويل لك إذا طورت رؤيتك للحياة والمجتمع والسياسة والثقافة بناء على تطور معرفتك. لذلك قللت جدا في السنوات الأخيرة من التوسع بالتعامل مع الاصدارات الجديدة في ادبنا.
عندما اكتب رايا نقديا لعمل ثقافي لا انطلق من فكرة أني صاحب الرأي القاطع. الرأي ليس حكما، بل راي شخصي مبني على ذوق ومعرفة شخصية. لا بد ان أقول ان كل انسان يعيش بظن انه سيد على الجميع هو نفسه عبد لتفكيره وتجارب الحياة مليئة بمن ظنوا انهم الأكثر تفوقا. ليكتب الشعر وليكتب ما شاء. انا لم اعنيه شخصيا، انما كتبت عن حالات مستهجنة تسود ثقافتنا.
وقد ارتكب بعض كتاب النقد (ولا أجد نقدا بمعظم صياغاتهم) مهازل كثيرة اثرت سلبيا على واقعنا الأدبي عامة والشعري على وجه الخصوص، لأن معظم الناشئين اختاروا الشعر، هذا يحتاج الى دراسة من مختص بعلم النفس الاجتماعي. قلت يوما لناقد منهم اننا نواجه ازمة شعرية، فاستهجن وقال انه تلقى في الشهر الأخير أكثر من عشر دواوين شعرية، قلت له هذه هي الأزمة التي قصدتها، وتساءلت لماذا لا أتلقي مثله دواوين الشعراء؟ هل لأني لا اعرف المديح بدون منطق؟ فعبس!!
لا اكتب هذا النص الا للتنبيه ان الرأي الشخصي هو حق لكل اديب وكل قارئ. والمنطق الثقافي ان يرى صاحب الابداع بالموقف الذي يعبر عنه أي مثقف، رأيا شخصيا قابلا للحوار وليس تهجمات شخصية، وأتمنى لصاحبنا وكل ممارسي الكتابة الأدبية، المزيد من النشاط الإبداعي.
كلمة أخيرة: عندما اتحاور مع شخص لا أهدف الى الانتصار عليه بل الى التقدم نحو الحقيقة، نحو تطوير الفكر والثقافة والابداع. يؤسفني ان قاعدة الحوار عندنا هي التمسك بآراء ومواقف الويل لمن يحاول التعرض لها.
ان الذي يخاف من الرأي الآخر لا رأي له!!
Source : https://iraqaloroba.com/?p=214