ثوابتنا ومتغيراتنا 3
ثوابتنا ومتغيراتنا 3
2-الحريه الذي تعنيه والذي لاتعنيه :الحرية هي ثاني اهداف البعث نجدها موضع خلاف ممكن لكن الخلاف سرعان ما يتلاشى حينما نتذكر ان لكل مفهوم بيئة صالحة لتطبيقه تختلف عن البيئات الاخرى التي تطبق فيها، فالحرية في العراق كما هي في الصين وفي امريكا تعني احترام الانسان وخياراته ولكن سبل التعبير عنها تختلف، فالحرية مشروطة بالتوفيق بين الخصائص القومية وبين متطلبات اطلاق طاقات الانسان الحر. فالحرية هي البيئة المثالية لاطلاق طاقات الانسان الابداعية ودمجه طواعية في العمل الجماعي وهو العمل المطلوب لخلق دولة قوية ومجتمع متقدم وعادل. اما الذي لاتعنيه فهو انها قالب واحد يطبق على كل الامم بغض النظر عن بيئتها وخصائصها الاساسية ، فما ان تصبح الحرية قالب واحد حتى تتحول تلقائيا ومهما حاول اصحاب القالب تجميلها الى استلاب للحرية في الواقع يؤدي حتما الى نوع معقد من العبودية ، فكيف يجري كل ذلك؟
لنبدأ بتحديد اهم العوامل التي تحدد اشكال الحرية وتنوعها، ففي ظروف الحرب والازمات الخطيرة تتقلص الحريات وتظهر قوانين استثنائية من اجل ضمان بقاء الامه ومنع زوالها بالحرب او الضغط، وهذا امر معروف في تاريخ البشر لان الازمة الساخنة خصوصا الحرب تعيد تشكيل التفكير وبالتالي تحدد السلوك الفردي والجماعي، لهذا فالحرب تفرض قوانينها ، وما دون الحرب العسكرية قد يكون اخطر منها لان الازمات الداخلية المعقدة تهدم اسس الدولة والمجتمع ببطء وبقوة اكثر من الحرب الخارجية . ومن امثلة الازمات الداخلية فان خير ما نستشهد به هو الدول الديمقراطية العريقة كما توصف مثل امريكا والاتحاد الاوربي ، فما ان وقعت احداث 11 ايلول عام 2001 في نيويورك حتى فرضت قوانين وجمدت اخرى وتزيدت ظاهرة تقليص حريات الناس بتصاعد واضح كلما زاد ما سمي بالارهاب.
لقد قيدت امريكا مواطنيها اولا بتقليص الحريات الفردية ومنح صلاحيات اضافية للمخابرات المركزية كي يكون لها دور داخلي رغم انها متخصصة بالعمل في الخارج وبالمقابل منح مكتب التحقيقات الفدرالي صلاحيات خارجية رغم انه يعمل داخل امريكا طبقا للتقسيم القانوني لكل منهما ، وهكذا توسعت مساحة صلاحيات كلا الجهازين على حساب حرية المواطن. ولم يتوقف الامر عند هذا الحد بل انشأت وزارة الامن القومي التي تشرف على اجهزة المخابرات المتعددة في امريكا !وكذلك في الاتحاد الاوربي فلقد ادى ما سمي بالارهاب الى تقييد شديد لمواطنين اوربيين اغلبهم من اصول غير الاوربية وسحبت الجنسية من الكثيرين منهم وقيد المهاجرون واللاجئون بطريقة تتناقض مع تقاليد وقوانين الاتحاد الاوربي ، وهذه حقائق لم تعد خافية.
فهل التقييد في العالم الثالث خصوصا في الاقطار العربية التي تتعرض لكوارث وليس لتهديدات امنية فقط كما هو حال امريكا والاتحاد الاوربي ظاهرة شاذة ومدانة كما نرى ام انها ظاهرة طبيعية تفرضها طبيعة الاحداث؟ ان وجود الكوارث ومنها الحروب الدموية والازمات الاقتصادية التي تجوّع الناس والعقوبات والحصارات كلها تحديات اخطر بكثير مما تواجهه امريكا واوربا ، وهي تجعل الحديث عن الحرية بمعزل عنها ضربا من السذاجة او التساذج. والازمات الطاحنة التي تواجهنا في جوهرها من عمل قوى خارجية خصوصا من بداية القرن العشرين وحتى الان فالحرية في اوربا وامريكا لم تشهد تحديا خطيرا مثل الغزو ما عدا الحربين العالميتين وهما من صنع اوربي، ومع ذلك فان نتائج سياسات امريكا العدوانية الصارخة هي التي صنعت العمليات الارهابية ضدها وهذا فرق كبير بيننا وبين الغرب .
من الحريه ينبع الابداع والعبقرية والتجدد وبدونها يصبح الانسان مخلوقا حيوانيا لايقدم افضل طاقاته بل يقوم بما يضمن حياته فقط. من هنا فان تحديد اشكال الحرية وصيغها وفروعها خصوصا الديمقراطية فانه يعني الاختيار المناسب لصياغة الحرية في وقت محدد ومرحلة تاريخية خاصة ولا يمكن تحديد الحرية واشكال التعبير عنها بصورة مسبقة الا من حيث جوهر الحرية وهو ان الانسان يجب ان يبقى حرا باستمرار.ما الذي يترتب على ما سبق؟
1-الحرية لاتنفصل بحدودها وطبيعتها عن البيئة الانسانية فكلما زاد العلم والمعرفة والثقافة والتجربة تزدهر الحرية وتصبح ممارستها دليلا على سلامة النهج ،وهذا اول قانون منطقي يتحكم بطبيعة الحرية.
2-الحرية لا تنفصل عن تكوين المجتمع وتقاليده وثقافته فلا حرية مطلقة بل هناك محددات لها تتناسب مع كل مجتمع وامة ، فحرية الانسان في اوربا غير حريته في العراق من حيث طرق التعبير عنها، تخيلوا ان انسانا يقف في بغداد ويصرخ : انا اكره نفسي ! ماذا سيقول العراقي ؟ سيقول انه مختل نفسيا ، ولكن الاوربي سيقول انه متوتر نفسيا وليس مختلا ،ففهم الانسان تبعا لتصرفاته ينبع من درجة التطور الاجتماعي والثقافي ونوعيته ، وهذا ينطبق على النظرة للشذوذ الجنسي فالعراقي يسميه شذوذا بينما الاوربي يسميه مثلية ، والفرق هو ان الشذوذ يحدد طبيعته وهي انه خروج على الطبيعة بينما المثلية هي تنويع ضمن الطبيعة.
3-ان فرض نمط الحرية من الخارج ينسف الحرية من جذورها فلا حرية مع الفرض والالحاق القسري لانهما يقتلان الحرية في مهدها، وهذا ينطبق على احد فروعها وهو الديمقراطية فما ان تفرض من الخارج حتى يصبح الامر قسرا ونفيا لحق الشعب في تقرير مصيره بنفسه وبارادته الحرة.ويترتب على هذه الحقيقة ان ما يصدره الغرب الينا من اشكال الحرية ربما تناسبه لكنها في كل الاحوال لاتناسبنا لان درجة تطورنا وتقالدينا وثقافتنا مختلفة تماما ،وبالتالي فانه يتعمد خنق الحرية لانه يعرف انها ارادة حرة لاتفرض بالقوة، ولكنه يتعمد فرض شكل لايناسبنا منها من اجل خلق فوضى قيمية ونفسية وسياسية وهي البيئة التي يحتاجها للتغلغل في صفوفنا واحتلال وطننا عبر الفوضى .
4-ان افقادنا للاستقرار النفسي عبر الازمات المصطنعة والمفاهيم الخاطئة يفقدنا البوصلة التي تهدينا للخيارات الصحية ونصبح عبارة ارادات تتصرف بطريقة متناقضة او عائمة على فقاعة هواء تمنع من ملامسة ارض الواقع ولكنها تنفجر ونسقط على الارض بدون باراشوت ينقدنا من التحطم الجسدي والاضطراب النفسي والفكري وهما المطلوبان من اجل العثور على كتل من الناس تقبل التعامل مع من يغزو او يتدخل ويخرب ، فلا تجنيد مخابراتي او نفسي او فكري الا في بيئة الاضطراب النفسي والتخلخل الفكري.
وما يترتب على ما سبق من ظواهر هو التالي:
1-ان الحرية يجب ان تخدم قضية الوطن اولا لان تخلخل الوطن بالتدخل الخارجي او الغزو وبوجود ادوات داخليه تتحرك دعما له يحرمه من تحقيق الاستقرار المطلوب والذي لاحرية بدونه ، ولهذا فالسلطة الوطنية واجبها الاول هو تحقيق الاستقرار الامني اولا ثم العمل على معالجة الاضطرابات النفسية والفكرية لازالة عامل الاضطراب وتوفير عقل صاف ونفسية مستقرة على الاقل في الحدود الدنيا.
2-والضرورة السابقة تعطي للدولة سلطات كبيرة وتحصر ممارسة الحرية بين ضفتين من اجل تنفيذ خطط المعالجة الشاملة للانسان وكل مشاكلة تدريجيا، وفي هذه الحالة فان الحرية الفردية تتقلص حتما ، لضمان تنفيذ خطط الاصلاح النفسي والفكري اعتمادا على بنية دولة توفر كافة متطلبات العيش الكريم.
3-نلاحظ الارتباط العضوي بين دور الدولة وقدرة المجتمع على معالجة الاسباب التي تمنع تحقيق الاستقرار فيه فلا نجاح الا بقوة دولة تستطيع التغيير الشامل للانسان وبيئته العامة خصوصا الاقتصادية والتربوية .وما ان يتسع دور الدولة حتى يكون مقرونا بتقليص الحريات ـ وهذه بديهية معروفة في كل العالم وفي كل مراحل التاريخ . وهنا نرى ان الحرية في مجتمع متطور اي مكتمل التطور تبدأ محدودة لكنها تتسع كلما نجحت الدولة في خفض نسبة الخطر وعدم الاستقرار بكافة اشكالهما،وهذا لا يمكن تحقيقه الا في مسار تثبيت اركان دولة القانون المحكومة بدستور يحيّد الاجتهاد الفردي للحاكم والمحكوم، ولهذا فتقلص الحريات وظيفته هي اعادة بناء المجتمع وفقا لمعايير السلامة النفسية والفكرية وهما هدفان مشروطان بتوفير احتياجات الانسان الاساسية للحياة كالاكل والسكن والامن والتعليم والقانون ،وبهذه الاشتراطات تبدأ عملية انبثاق دولة القانون وتزيح دولة المركز القوي جدا وتتعاظم نسبة تقرير الشعب لمصيره سياسيا .
بهذه الملاحظات نرى ان الحرية ليست مفهوما مطلقا بل مقيدا بعدة شروط منها البيئة والتقاليد ودرجة التطور الاجتماعي والتكنولوجي مما يجعل قطريتها هي حدودها الوطنية وقوميتها هي حدودها القومية، فحتى ضمن الامة الواحدة توجد تنويعات في ممارسة الحرية لكنها تنويعات محكومة بقوانين موضوعية.فالحرية في البعث هي اولا واخيرا مفهوم اجتماعي وليس حقا فرديا صرفا بمعنى ان ممارسة الحرية مشروط بخدمتها للمجتمع مثلما تخدم الفرد فما ان تصبح الحرية اداة تهديم لاستقرار المجتمع والدولة حتى تفقد دورها البناء ويتطلب الامر تدخلا من الدولة. وما يجعل للدولة دورا كبيرا حتى عندما تصبح دولة مؤسسات راسخة هو التحديات الخارجية فنحن نعيش في عالم متوحش الضعيف فيه يفترسه القوي والدولة هي حارسة الوطن مادام هناك تحد خارجي .
ما هي الخلاصة الوافية؟ حب الحرية طبع بشري يزداد قوة او ضعفا طبقا للبيئة الطويلة الزمن ، ولكن في كل الاحوال فانها ليست فوضى اجتماعية تتجاوز ضفتي كل مبدأ فتطفح بصور انانية متطرفة وانعزالية تقطع اوصال المجتمع ،ولا هي نزعة فردية جامحة تبرر كل سلوك مهما كان منافيا لرأي الاغلبية بل هي جزء من تنظيم اجتماعي يحدد مديات وطبيعة الحريات الفردية وبدونه يضيع الناس ويتعرض المجتمع الى التخلخل وتلك بداية الانهيار،وبهذا المعنى فالفرد الحر هو الفرد الملتزم بقيم عليا وتقاليد ايجابية وبقوانين ملزمة، كي تضمن حقوق الجميع .
يتبع.
ثوابتنا ومتغيراتنا 3
Source : https://iraqaloroba.com/?p=11085