قراءة ثانية لشعرنا القديم
قراءة ثانية لشعرنا القديم
كثيرة هي الدراسات المُعَدة عن الشعر العربي الجاهلي معنية بتحديد أغراضه ومعانيه وتشخيص عناصره وسماته الفنية ، مع تباين أصحابها في دوافعهم وغاياتهم منها ، وتوزعهم بين داعٍ لحث أجيال القراء على التزود منه والتشرب به واستيحاء أجوائه واعتباره قمة ما يمكن أن توفي عليه السليقة العربية من إبداع وأسارة وتفنن ، وبين محذر من ذلك وصارف عنه ، بدعوى تمثيله لنمط من الحياة الجافية لم تعد لنا صلة بها أو رابطة معها ، ويتنافيان من ناحيتهما مع الشوط الحضاري الذي جازته البشرية عبر قرون متلاحقة ، ويغفل أولاء عن أن قيام قبيلة بغزو أخرى على ما يستتبع ذلك وينجم عنه من نهبٍ وسلبٍ وانتهاك ، لا يعادل في دلالته على الهمجية والتوحش شروع إحدى الدول الاستعمارية في العصر الحديث بفرض هيمنتها المطلقة على غيرها من البلدان ، وقد لحق بموجبات العزوف عن قراءة الشعر الجاهلي في شرع رافضيه فرط حفالته بمفردات لغوية صلدة لم يُكتب لها دوام الاستعمال واعتمادها من لدن الشعراء والكـُتـاب وتضمينها في أساليبهم وتعبيراتهم ، وليس أدل على ذلك من اضطرار طالب العلم لمراجعة المعجم للتعرف على المرادفات السهلة المشاكلة لتلكم الألفاظ البينة النبو والإعضال ، على ما يستنفد ذلك من الجهد والطاقة الذهنية في الحفظ والتدارس ، ولا ينكرَن أحدٌ استحالة الإبقاء في الذاكرة على تلك الفحاوي لأمدٍ يطول ، مهما أوتي للمرء من نشاطٍ وإقبال على الحفظ والاستزادة أو طبع عليه من قوة العقل وصحة الوجدان إذا جاز التعبير ، ولا عليك بما يتشدق به الآخرون ويزهون من دون لزوم أن لغتنا تفوق سائر لغات العالم بوفرة الأدوات وتعدد وجوه التراكيب والصياغات التي يصار إليها منها تبعاً لذلك.
أما ما تزخر به بعض مقطعاته وقصائده من اللقيات الحكمية والمعاني النبيلة المستقطرة من تجارب واقعية مريرة جازها ناسجوها وخرجوا منها بالندوب والآلام ، وخُيل للدارسينَ معها أنـهم كانوا على مستوىً من المعرفة والفهم والثقافة لايقل خطراً وأهمية من قبل حكماء اليونان وأعيان الأدب والعلم في الأمم الأخرى ومنها اليونان بوجه خاص ، فرغم أن ذلك مما لا يستهان به أو يطوله الإنكار إلا أنـه مما يُحتمَل صدوره عن أية نفس بشرية في أي زمن أو حقبة منه ، ويظل أبداً متجدداً متكرراً بأشكال وأنساق أخرى يتفاوت الشعراء في مجالها من ناحية نصيبهم من الاكتمال والبداعة والأداء الفني.
ولنا أن نقطع بين ذينك المتخالفينَ في النظر إلى الشعر الجاهلي وتقويمه ، انـه مثل طوراً من حياة أمتنا وتاريخها غاية ما يكون التمثيل من الإتقان والإحسان ، وان الإيصاء ببتر الصلات والأواصر بين حاضر الشعب وماضيه ما لا يقوى عليه دعاة هذه الخطة مهما تفننوا لها من وسائل وابتغوا من طرائق ، ويجدر وفق هذا الحكم تقبل الشعر الجاهلي على علاته رغم ما يُمتحَن به من تحفظات المعاندينَ المستكثرينَ ومؤاخذتهم عليه من احتفاله بالعصبيات ولواحقها من ضغائن وأحقاد معنىً ، ومن امتلاءٍ بالعسر والتعقيد اللفظي مبنىً ، أسوة بما تبلغه بقية المعطيات التراثية في العمارة والطب والحكمة والفلك من عناية الشراح وتقويمهم.
لا نبغي من هذا التقديم الضافي رمي الدكتور مصطفى ناصف بالغلو والسرف والانصراف إلى تصيد خصائص موهومة ، وتزويق مقومات فنية مختلفة بغية إسباغها على شعر ذلك الزمن العافي تدليلاً على ما سبق إليه أعلام الشعر وقتذاك من نبوغ وتجويد فني ، أو عن لوجدانهم وخيالهم من خطرات ومفهومات وحقائق هي في الذروة والعمق والدقة أو الغنى الفلسفي والجهد الطائل المبذول لاكتناه الأسرار الخافية الماثلة في هذا الكون إلى جانب ما يحسن توافره للشعراء المجيدينَ من رهافة مزاج فني وطبع سليم بعد الفراغ من تملي فصول بعض كتبه التي أخذت أمكنتها البارزة من المكتبة العربية في السنوات الأخيرة ، ومنها: (دراسة الأدب العربي) ، و (نظرية المعنى في النقد العربي) ، وثالثها (قراءة ثانية لشعرنا القديم) الذي انتهى إلينا بطبعته الثانية ، ولا نحيط علماً بتاريخ صدوره بطبعته الأولى ، أكان ذلك في حياة العقاد أم بعد أن طواه الموت وغيبه عن مريديه وخصومه معاً ، فإن كان ذلك بعد رحيله فما أسنى ما حبي به مؤلفه من حسن الحظ والسلامة والنجاء من القدح والتخرص والتجريح والتفنيد ، لأن الفصل الأول من الكتاب المذكور مكرس لمعارضة العقاد ودحض مؤاخذاته على شعر شوقي وتوهين ما وسم به عموم الشعر العربي القديم من الصنعة ، مستثنياً طائفة من الشعراء المستعربينَ في تحريهم الصدق مع أنفسهم عند صياغة قصائدهم ، معفينَ ذواتهم من الكذب والتعمل والاختلاق والتكلف وحتى الكلف بالإحكام والبراعة اللفظية ، فجاء شعرهم في الطبقة السامية من الإلهام وتمثيل الذات الفردية المتميزة وغير الذائبة في غيرها أو المقتبسة من شياتها كما يخال العقاد.
ومن هذا التوجه لإبطال مفهوم العقاد لطبيعة الشعر العربي وغفالته عن اجتلاء طبيعة العناصر الجمالية في الكثير من شواهده ولقياته يغري المؤلف بنسف الكثير من الأحكام والمقولات والانطباعات النقدية المعهودة ، منطلِقاً من فحوى قوامها “إن الفن العظيم يتميز بميزة خاصة ، فهو ينقل إلى كثيرين معنىً سطحياً واضحاً ، ويحتفظ للقليلينَ بمجموعة أكمل من الأعماق” ، ولو أعدنا العبارة السابقة بغير هذا النسج وبشكل أكثر تبسيطاً لما تعدينا إنحاءه على النقاد والدارسين تعلقهم بالبلاغة ولهاثهم وراء صحة الألفاظ وجزالتها في متابعاتهم وتفسيراتهم النقدية ، بدلاً من الغوص في أعماق النصوص التي يعنون بتحليلها وتشخيص محصلتها من الصواب والخطأ ، ولكي يدلل على قناعته التامة بفائدة منهجه للدرس النقدي وما يعقبه من استنتاجات جديدة مستثيراً نخوة القارئ لمؤازرته والاتفاق معه في تخريجاته ومسلماته ، يضع بين يديه مقولة لا تحتمل تكذيباً إن لم يلفِ المعترض عليها خروجاً على قواعد الذوق والخلق والفهم الصحيح ، فلا محيص من حمل ذاته على المسايرة ومشاكلة العموم في وجهتهم ونزوعهم ، لماذا ؟ ، لأن الناظر في الكتاب يحصل له الفهم ولا تظهر أسراره إذا كان في قلبه بدعة أو كبر أو هون ، أو كما كان يقول بعبارة عصرية يقف موقفاً عقلياً أو نفسياً مغايراً للعمل الذي يقرأه. وبهذا التعبير المركز والأداء الدقيق يجُب الدكتور مصطفى ناصف عن نفسه مقدماً أي تحامل أو اتهام بمخالفة الشائع من الآراء والأقوال النقدية لمجرد المخالفة أو رغبة فيها والانتهاء منها إلى البروز والظهور وبسط ظله على الحياة الأدبية ، وصح أن يتحلق حوله الشيع والأتباع وشعارهم المعلن بوجه خصومهم ” لا خيرَ أن يكتب المرء عما لا يحبه”.**
والحال لا تعدو من ناحيتنا أنـها تمثل رد فعل لما يوصم به الشعر القديم وعِيبَ عليه تقطع أجزائه وانعدام الوحدة بينها ، وكل ما يفيده القارئ من قيام الباحث بكتابة فصوله حول:ـ البطل ، الناقة ، الأم ، الأرض الظامئة ، نحو مبدأ عظيم ، مشكلة المصير ، الحاجة إلى الخوف ؛ بالانطلاق من تمعنه في بعض الأشعار ، مطيلاً الوقوف والتأمل في ما أدته مخلوقات كالفرس والناقة من دور في حياة العرب ، ومثلها بعض الظواهر الطبيعية كالمطر والرياح ، وكذلك عاداتهم المألوفة ومنها الكرم والإيثار ، ينحصر في الدلالة على استطراده وخوضه في تأملاتٍ وهواجس شتى نجتلي اقتناعه بما يعتقد ، أو نخلص منهما إلى عد إغراقه في الافتراض والتأويل لوناً من الترف الثقافي ـ إذا جاز التعبير ـ يهم نمطاً معيناً من متذوقي الآداب والفنون ، في غير كتم إعجابنا بما يجهد لإثباته من الرصيد الثقافي الذي كان عليه الشعراء يومها ، وكونهم لا ينهدون للنظم أو النسج إلا وهم على دراية بتوظيف الألفاظ سعياً وراء علائق ومدلولات عميقة ، إن تـُوخي منها التوضيح وإلقاء الضوء الكاشف كما يقولون ، فما يزداد الأمر معهما إلا لبساً وتعقيداً معادلينِ لما يوغل فيه الكاتبون من التخريج والتأويل وتسجيل الخواطر الذاتية ، وما غابَت عن وجداننا تلكم الانطباعات التي سطرها الكاتب الجزائري أو الفرنسي ألبير كامو أثناء تجوابه في ربوع الجزائر ووقفته عند آثارها وأطلالها المهجورة ، ولا برحتها اللقيات العبارية والجمل الدافقة الحارة التي توسل به محمد مندور لتصوير ما ابتعثته النماذج البشرية التي طالعته في الأعمال الروائية الممتازة من أصداء وانعكاسات في نفسه ، حد الاستواء بها على جادة الخلق الفني الأصيل ، ومثلها في الأسر والإيحاء عبارات الدكتور مصطفى ناصف في ذم الابتذال الذي هو ” مخالطة الناس دون احتراز ودون أن يفرغ لنفسه ” ، وفي تمجيد عزلة الشاعر التي تسبغ عليه روعة يعجز معها المجتمع عن أن يفهم سره.
الدكتور مصطفى ناصف ـ (قراءة ثانية لشعرنا القديم) ، صفحة 153.
** المرجع نفسه ، صفحة (8).
*** المرجع نفسه ، صفحة (98).
قراءة ثانية لشعرنا القديم
المصدر : https://iraqaloroba.com/?p=11551