كلمة في عيون التواريخ
كلمة في عيون التواريخ
انتهيت مؤخراً من قراءة الجزء الثاني من كتاب (عيون التواريخ) لمؤلفه محمد بن شاكر الكتبي المؤرخ من أعيان القرن الثامن الهجري ، فقد كانت وفاته سنة 764 هـ وهو عينة من موسوعة ضخمة يعزوها بعض الأدباء إلى الكتابة في حقل التاريخ وينسبها آخرون إلى الدراسة الأدبية الصرف ، وعني بتحقيق هذا المصنف وضبط ما اشتمل عليه من أخبار وشواهد شعرية الراحل الدكتور فيصل جريء السامر والدكتورة نبيلة عبد المنعم داود ، وتعهدت بطباعته وزارة الثقافة في بلادنا العزيزة العراق ضمن سلسلة كتب التراث ، ومن عادة غالبية الأدباء أن لا يتدارسوا أمثال هذه الكتب من بداياتها حتى خواتيمها ، بل يحتفظون بها في مكتباتهم الخاصة مصادر ومظان يرجعون إليها متى ما يؤلفون في المناحي التاريخية والأدبية وينقلون عنها الوقائع والنصوص الدالة عليها من النثر البالغ الجودة والشعر الفائق التصوير.
والكتاب ينبئنا من عنوانه أنه يسجل ما جدَ في سنة معينة من تاريخ العرب والمسلمين من حوادث وأهوال وتحولات في مراكز السلطة ومواقف الدول المجاورة من هذا الكيان الذي شاده العرب ، وغدا بفضل دأبهم وحنكتهم ودرايتهم مزدهراً بالعلوم والآداب والفنون والقيم الحضارية المتساوقة ، وطبيعة ذلك الزمن البعيد عن زماننا الحاضر ، ولا غروَ أن تغلب على تلك المواقف عوامل الإضطغان والمنافسة والعدوان بين آونة وأخرى.
ويعقب هذا التعريف بماجريات السنة وأحوالها المحددة ، إشهار ما حدث إبانها من وفيات الأعلام المجلين في الشعر والكتابة والحديث والفقه والقضاء والتصوف وتلاوة القرآن المجيد ، مبيناً ما كان لهم من تأثير في عصرهم ، مزجياً روائع ما نسجوه من أشعار وجدانية وأخرى امتدحوا بها الخلفاء والولاة ، وسجلوا فيها فتاء المنضوين في الجيوش العربية والإسلامية ونخوتهم وقتذاك في الذود عن الديارات العربية وصيانتها من الانتهاك. فهو بهذا الوصف مغنيك إلى حدٍ عن كثير من دواوين الشعر العربي في القرن السادس الهجري ، وبالنسبة لمحتوى هذا الجزء فإنه يوفر عليك جهداً طائلاً في التنقيب عن أشعار المجيدين طوال الفترة الواقعة بين سنتي 505 هـ – 555 هـ. لما يضعه في متناولك من لقياتهم البارعة وشواهدهم المأثورة أمثال ابن القيسراني وظافر الحداد وابن الخياط والأعمى التطيلي وابن خفاجة الأندلسي والشهرزوري والأبيوردي والأرجاني ، فضلاً عن آخرين لم يتناولهم الدارسون في دراساتهم وتحليلاتهم ، وظلوا مجهولين لدى القراء وطلبة الجامعات رغم ما أسلفوه من عينات وشواهد قمينة بالالتفات إلى أدائها الفني وأغراضها الوثيقة الاتصال بالشعور الإنساني على مختلف أطواره وحالاته من الحزن والفرح والانقباض والإنبساط والإقبال على الحياة والعزوف عنها لم تكن ، أعني تلك النماذج الشعرية المنسوبة لأولئك المغمورين قد تضمنت في معطياتها و موحياتها من اللمحات الفكرية والفلسفية ما تدلل به على صدق المعاناة النفسية لدى الشاعر وما تفصح به عن مداه من التأمل العميق والنظر النافذ إلى ما حوله من شجون وماجريات ، وتضفي على نتاجه سمة البقاء والدوام من ناحية معانيه على توالي الحقب ، دون استهوان ما يزينه من طابع فني ومسحة جمالية ، ومن أمثلة ذلك أنا كثيراً ما نستدل في مناسبات مختلفة بهذا البيت الشعري الذي هو أدنى إلى النصح والموعظة في وجهته ومقصوده منه ، إلى الشاهد الشعري المتميز من سائر الشعر برشاقة لفظه وجمال تصويره.
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنـت فيها
هذا النموذج الذي نوطن ذواتنا في غير ظرف أو مناسبة عند استذكاره ، على النسيان وتخطي ما مر بنا من أزمات ومصاعب ، أو انسقنا فيه وله من هنات وأخطاء ، كلنا يجهل قائله أو يتردد في نسبته إلى واحد من جهابذة الشعراء المتفلسفين أو الفلاسفة الذين يروضون ذواتهم على المزاج الفني ، فيصوغون مقولاتهم شعراً.
إنه من نسج الأديب الفاضل إبراهيم بن عثمان بن محمد الكلبي الغزي ، سمع الحديث بدمشق ورحل إلى بغداد ، وأقام في المدرسة النظامية سنين كثيرة ، ولد بغزة سنة إحدى وأربعين وأربعمائة ، وتوفي في سنة أربع وعشرين وخمسمائة ، وغيرها كثير مما تعود نسبته من النتاجات الثرة إلى أعلام النحو والكلام والمنطق والتصوف.
ولا غرو أن استهدف محققا هذا السفر خدمة التراث العربي وإنعاش الواقع الثقافي هذا المشحون بآثار وتآليف ظهر عليها ثمة تفريط بسليقة العرب وابتعاد عن معتادهم في التعمق والإلمام بجوانب الموضوع الذي يرومون الكتابة في صدده وسياقه ، وقد يكونان ، لاسيما أنهما متخصصان في التاريخ العربي ، قد نظرا إليه بوصفه من الكتب التاريخية ، مغضيين عن مسحته الأدبية البحتة ويظل ما يسلكه في عداد التأليف في حقل التاريخ رهين تلك التواريخ المعنية بضبط سني الولادات والوفيات و وقوع الحوادث والنكبات والمحن.
لكن الحري بالذكر ما وفقا له من امتلاك المهارة الفائقة في فن التحقيق ، فقد أحالا القارئ إلى أمهات المصادر والمظان المندرجة في علم التاريخ والجغرافية والكلام فضلاً عن الدواوين الشعرية والتصانيف الفلسفية ، متوخيين بها توجيهه إلى ترجمات أخرى ضافية لأولاء المتوفين أو توثيق ما ساقوه من أشعارهم مستوية في أصح أشكالها بياناً وآنقها صورة ، وتنضاف بذلك إلى شخصيتيهما مزية الأديب الثبت والمحقق المدقق فيما بين يديه من نصوص.
ولنا أن نسجل حقيقة كون إخراج هذا الأثر وصنويه بعده ، من وجهة نظر كل منصف إنجازاً طائل الأثر وجليل القيمة من لدن وزارة الثقافة في العراق لا يدانيه ما أخرجته من مجموعات الشعر الحديث والقصة ، لأنها أسهمت في إبطال دعوى متفشية في الحياة الأدبية والوسط الجامعي عن ركود الأدب العربي وجموده ، ولا سيما الشعر منه بوجه خاص عقب انقضاء القرن الرابع الهجري ، أي أن من الدارسين من يجازف بتقويم مرحلة الانحطاط ، إن نكب الأدب العربي بها حقاً ، فينفون عن لقياته مياسم الإبداع والجدة طوال ما تلا التاريخ المذكور من سنوات ، بينا يَجِبُ رأي العلامة مصطفى جواد هذا التخرص أو يكذب هذا الإدعاء و يفنده ، يقول ” وكان القرن السادس للهجرة عصر نهضة و عز للأدب العربي ، وعهد وثبة وسيطرة للعروبة ، فقد استيقظ العباسيون فيه من سباتهم ، وطالبوا بسلطتهم المسلوبة ، وحاربوا في سبيل الحمى المستباح.”
وفائدة أخرى من هذا الكتاب نجتنيها ، بتعبير القدامى ، أو ملحوظة ماثلة فيه كما يقول المحدثون ، هي أسلوبه المرسل و بيانه المنسجم ، و ما يزخر به عقل مؤلفه ومصنفه من حقائق ومعلومات وافية ، ويمتلئ به وجدانه وضميره من حماسة ورغبة في التبويب ، فخلا من الصناعة اللفظية وانتفى منه كل أثر للتحذلق والتزيين ، خلاف ما شاع عن كتّاب زمنه من هيام بتلك الزخارف اللفظية والرقاعات البيانية المسفة ، وقد يكون بصنيعه هذا الممهد لجري ابن خلدون على هذا النسق واحتذائه عبر ما صنّف و بوّب ، و يظل محمد بن شاكر الكتبي متفرداً بما بذله من جهد في مجاوزة فقره و رقة حاله إلى اغتنائه وغنمه المال بتعاطيه تجارة الكتب.
كلمة في عيون التواريخ
المصدر : https://iraqaloroba.com/?p=10306